للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ١٧]

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)

قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي اللَّهِ وَمِنْ أَشَدِّهَا تَشْغِيبًا فِي زَعْمِهِمْ مُحَاجَّتَهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٧، ٨] ، وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ:

يُخَبِّرُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ

وَقَدْ دَحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِنَفْيِ اسْتِحَالَتِهِ، وَبِدَلِيلِ إِمْكَانِهِ، وَأَوْمَأَ هُنَا إِلَى مُقْتَضِي إِيجَابِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ حَقٌّ وَعَدْلٌ فَكَيْفَ لَا يُقَدِّرُهُ مُدَبِّرُ الْكَوْنِ وَمُنَزِّلُ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَقَوْلُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥] وَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخان: ٣٨- ٤٠] .

وَأَكْثَرُهَا جَاءَ نَظْمُهَا عَلَى نَحْوِ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِمَا يُذَكِّرُ بِحِكْمَةِ الْإِيجَادِ وَأَنَّ تَمَامَ الْحِكْمَةِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.

فَقَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يُؤْذِنُ بِمُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، تَقْدِيرُهُ: فَجَعَلَ الْجَزَاءَ لِلسَّائِرِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالنَّاكِبِينَ عَنْهُ فِي يَوْمِ السَّاعَةِ فَلَا مَحِيصَ لِلْعِبَادِ عَنْ لِقَاءِ الْجَزَاءِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥] . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَوْقِعُهَا مِنْ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ [الشورى: ١٦] مَوْقِعُ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِشِدَّةِ اتِّصَالِ مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْأُخْرَى.

وَالْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي مَضْمُونُ صِلَتِهِ إِنْزَالُهُ الْكِتَابَ