وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ الْمَلْجَأِ، الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُصُولِ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ هُنَا عَلَى أَطْلَالِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي قَلْعِ الطُّورِ وَرَفْعِهِ فَوْقَهُمْ وَقَوْلِ مُوسَى لَهُمْ إِمَّا أَنْ تُؤْمِنُوا أَوْ يَقَعَ عَلَيْكُمُ الطُّورُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ لَمَا كَانَ مِنَ الْإِلْجَاءِ فِي شَيْءٍ إِذْ لَيْسَ نَصْبُ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالتَّخْوِيفِ مِنَ الْإِلْجَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ دِلَالَةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ وَالْمُمْتَنِعُ فِي التَّكْلِيفِ هُوَ التَّكْلِيفُ فِي حَالَةِ الْإِلْجَاءِ لَا التَّخْوِيفُ لِإِتْمَامِ التَّكْلِيفِ، فَلَا تغفلوا.
[٦٥، ٦٦]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
هَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى تَذْكِيرًا لِلْيَهُودِ بِمَا أَتَاهُ سَلَفُهُمْ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَا عُرِضَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي حِكَايَةِ هَاتِهِ الْقِصَّةِ أُسْلُوبَ حِكَايَةِ مَا تَقَدَّمَهَا وَمَا تَلَاهَا مِنْ ذكر إِذْ [الْبَقَرَة: ٦٣] الْمُؤْذِنَةِ بِزَمَنِ الْقِصَّةِ وَالْمُشْعِرَةِ بِتَحَقُّقِ وُقُوعِهَا إِلَى قَوْلِهِ هُنَا: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ لِمَعْنًى بَدِيعٍ هُوَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ
مِنَ الْقَصَصِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا كُتُبُ التَّوْرَاةِ مِثْلَ الْقَصَصِ الْأُخْرَى الْمَأْتِيِّ فِي حِكَايَتِهَا بِكَلِمَةِ (إِذْ) لِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَهُمْ بَلْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتْ غَيْرَ مَسْطُورَةٍ فِي الْأَسْفَارِ الْقَدِيمَةِ وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً لِعُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَتِلْكَ مُعْجِزَةٌ غَيْبِيَّةٌ وَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي لَفْظِهَا مَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا أَخْفَى مِنَ الْعِلْمِ بِالْقَصَصِ الْأُخْرَى فَأَسْنَدَ الْأَمْرَ فِيهَا لِعِلْمِهِمْ إِذْ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ.
وَالِاعْتِدَاءُ وَزْنُهُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَهُوَ تَجَاوُزُ حَدِّ السَّيْرِ وَالْحَدِّ وَالْغَايَةِ. وَغَلَبَ إِطْلَاقُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَظُلْمِ النَّاسِ وَالْمُرَادُ هُنَا اعْتِدَاءُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ يُشَبَّهُ بِالْحَدِّ فِي أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِمَا شَمِلَهُ وَلَا يُؤْخَذُ بِمَا وَرَاءَهُ وَالِاعْتِدَاءُ الْوَاقِعُ مِنْهُمْ هُوَ اعْتِدَاءُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ مِنْ عَهْدِ مُوسَى بِأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى حُكْمِ السَّبْتِ وَعَدَمِ الِاكْتِسَابِ فِيهِ لِيَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِلْعِبَادَةِ بِقَلْبٍ خَالِصٍ مِنَ الشُّغْلِ بِالدُّنْيَا، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ سُكَّانِ أَيْلَةَ (١) عَلَى الْبَحْرِ رَأَوْا
(١) أَيْلَة: بِفَتْح الْهمزَة وبتاء تَأْنِيث فِي آخِره بَلْدَة على خليج صَغِير من الْبَحْر الْأَحْمَر فِي أَطْرَاف مشارف الشَّام وتعرف الْيَوْم بِالْعقبَةِ وَهِي غير إيلياء بِكَسْر الْهمزَة وبياءين ممدودتين الَّذِي هُوَ اسْم بَيت الْمُقَدّس.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute