الصِّفَتَيْنِ لِمُنَاسَبَةِ مَقَامِ الْجَوَابِ، أَيْ قَدْ قَضَى بِالْحَقِّ لِكُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ أَحَدٍ وَلَا يَعُوقُهُ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى حَقِّهِ عَائِقٌ وَلَا يَجُوزُ دُونَهُ حَائِلٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦٢] .
وَاعْلَم أَنه قد وَرَدَ فِي صِفَةِ تَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ الْوَحْيَ أَنَّ مَنْ يَتَلَقَّى مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْوَحْيَ يَسْأَلُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَمَا
فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ: أَنَّ نَبِيءَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»
اهـ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: قَضَى صَدَرَ مِنْهُ أَمْرُ التَّكْوِينِ الَّذِي تَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةُ تَنْفِيذَهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «فِي السَّمَاءِ» يَتَعَلَّقُ بِ «قَضَى» بِمَعْنَى أَوْصَلَ قَضَاءَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَيْثُ مَقَرُّ الْمَلَائِكَةِ، وَقَوْلُهُ: «خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ» أَيْ خَوْفًا وَخَشْيَةً، وَقَوْلُهُ: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَيْ أُزِيلَ الْخَوْفُ عَنْ نُفُوسِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ ابْن عَبَّاس عِنْد التِّرْمِذِيِّ «إِذَا قَضَى رَبُّنَا أَمْرًا سَبَّحَ لَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ» قَالَ: «ثُمَّ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ»
الْحَدِيثَ.
وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي آيَةِ سُورَةِ سَبَأٍ وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ تَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ أَمْرَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَكَانَتْ أَقْوَالُهُمْ عَلَى سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ.
وَلَيْسَ تَخْرِيجُ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ مُرَادًا بِهِ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ مِنْ صُوَرِ مَعْنَاهُ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ. وَهَذَا يُغْنِيكَ عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى تَكَلُّفَاتٍ تَعَسَّفُوهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَتَعَلُّقِهَا بِمَا قبلهَا.
[٢٤]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٢٤]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
انْتِقَالٌ مِنْ دَمْغِ الْمُشْرِكِينَ بِضَعْفِ آلِهَتِهِمْ وَانْتِفَاءِ جَدْوَاهَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى إِلْزَامِهِمْ بُطْلَانَ عِبَادَتِهَا بِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْعِبَادَةِ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُ عِبَادَهُ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ شُكْرٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ إِلَّا الْمُنْعِمُ،