للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ١٦]

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦)

جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: ١٣] وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى أُسْلُوبِ التَّقَاوُلِ وَالتَّجَاوُبِ، وَمَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى قَوْله مَسْؤُلًا [الْأَحْزَاب: ١٤- ١٥] اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، أَيْ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ مَا أَرَدْتُمْ إِلَّا الْفِرَارَ جُبْنًا وَالْفِرَارُ لَا يَدْفَعُ عَنْكُمُ الْمَوْتَ أَوِ الْقَتْلَ، فَمَعْنَى نَفْيِ نَفْعِهِ: نَفْيُ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ لِأَنَّ نَفْعَ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ مَا يُقْصَدُ لَهُ.

فَقَوْلُهُ مِنَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِ الْفِرارُ وفَرَرْتُمْ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ يَنْفَعَكُمُ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ يَنْفَعَكُمُ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْفَائِدَةُ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ الْمُتَعَلِّقِ، أَيْ: لَنْ يَنْفَعَكُمْ بِالنَّجَاةِ.

وَمَعْنَى نَفْيِ نَفْعِ الْفِرَارِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَعَاطِي سَبَبِ النَّجَاةِ، هَذَا السَّبَبُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لِوُجُوبِ الثَّبَاتِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَمَحَّضُ فِي هَذَا الْفِرَارِ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مَا قُدِّرَ لِلْإِنْسَانِ مِنَ اللَّهِ إِذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْفِرَارُ مَأْذُونًا فِيهِ لِجَازَ

مُرَاعَاةُ مَا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مَأْمُورِينَ بِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فَكَانَ حِينَئِذٍ الْفِرَارُ مِنْ وَجْهِ عَشَرَةِ أَضْعَافِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَأُذِنَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ الْمُسْلِمُونَ لِضِعْفِ عَدَدِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ فَالْفِرَارُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمُسْلِمُونَ زَحْفًا فَإِنَّ الْفِرَارَ حَرَامٌ سَاعَتَئِذٍ.

وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ النَّسَخِ فَلِذَلِكَ وَبَّخَ اللَّهُ الَّذِينَ أَضْمَرُوا الْفِرَارَ فَإِنَّ عَدَدَ جَيْشِ الْأَحْزَابِ يَوْمَئِذٍ كَانَ بِمِقْدَارِ أَرْبَعَةِ أَمْثَالِ جَيش الْمُسلمُونَ وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ زَحْفًا فَإِنَّ الْحَالَةَ حَالَةُ حِصَارٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَيْضًا: أَنَّكُمْ إِنْ فَرَرْتُمْ فَنَجَوْتُمْ مِنَ الْقَتْلِ لَا يَنْفَعُكُمُ الْفِرَارُ مِنَ الْمَوْتِ بِالْأَجَلِ وَعَسَى أَنْ تَكُونَ آجَالُكُمْ قَرِيبَةً.