للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣٥]

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الْأَنْعَام: ١٣٤] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوَّلَ مِنْهُ هُوَ وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا مَرَّ، فَأَعْقَبَهُ بِمَا تَمَحَّضَ لِوَعِيدِهِمْ: وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، لِيُمْلِيَ لَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ إِمْلَاءً يُشْعِرُ، فِي مُتَعَارَف بالتّخاطب، بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِمَّا يَزِيدُ الْمَأْمُورَ اسْتِحْقَاقًا لِلْعُقُوبَةِ، وَاقْتِرَابًا مِنْهَا. أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُنَادِيَهُمْ وَيُهَدِّدَهُمْ. وَأمر أَن يبتدىء خِطَابَهُمْ بِالنِّدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُقَالُ لَهُمْ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَسْتَرْعِي إِسْمَاعَ الْمُنَادَيْنِ، وَكَانَ الْمُنَادِي عُنْوَانَ الْقَوْمِ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ لِحَالِهِمْ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤] لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّهُ يُحِبُّ لِقَوْمِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

وَالنِّدَاءُ: لِلْقَوْمِ الْمُعَانِدِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلتَّهْدِيدِ، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مُخَالِفٌ لِعَمَلِهِ، لِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا- مَعَ قَوْلِهِ- إِنِّي عامِلٌ.

فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا لِلتَّسْوِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ لِإِظْهَارِ الْيَأْسِ مِنِ امْتِثَالِهِمْ لِلنُّصْحِ بِحَيْثُ يُغَيِّرُ نَاصِحُهُمْ نُصْحَهُمْ إِلَى الْإِطْلَاقِ لَهُمْ فِيمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَفْعَلُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ اسْتِعَارَةٌ إِذْ يُشَبَّهُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ الْمَأْيُوسُ مِنَ ارْعِوَائِهِ بِالْمَأْمُورِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ يُنْهَى عَنْهُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْهِيَّ صَارَ وَاجِبًا، وَهَذَا تَهَكُّمٌ.

وَالْمَكَانَةُ: الْمَكَانُ، جَاءَ عَلَى التَّأْنِيثِ مِثْلُ مَا جَاءَ الْمُقَامَةُ لِلْمُقَامِ، وَالدَّارَةُ اسْمًا لِلدَّارِ، وَالْمَاءَةُ لِلْمَاءِ الَّذِي يُنْزَلُ حَوْلَهُ، يُقَالُ: أَهْلُ الْمَاءِ وَأَهْلُ الْمَاءَةِ. وَالْمَكَانَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي تَلَبَّسَ بِهَا الْمَرْءُ، تُشَبَّهُ الْحَالَةُ فِي إِحَاطَتِهَا وَتَلَبُّسِ صَاحِبِهَا بِهَا بِالْمَكَانِ الَّذِي يَحْوِي الشَّيْءَ، كَمَا تَقَدَّمَ