للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٨٠]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِبَيَانِ حُكْمِ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَشْرِيعٌ وَلَمْ يَفْتَتِحْ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْعُهَا إِحْدَاثَ شَيْءٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ، لِذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مَزِيدِ تَنْبِيهٍ لِتَلَقِّي الْحُكْمِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَقَايَا عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْوَالِ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَثِيرًا مَا يَمْنَعُونَ الْقَرِيبَ مِنَ الْإِرْثِ بِتَوَهُّمِ أَنَّهُ يَتَمَنَّى مَوْتَ قَرِيبِهِ لِيَرِثَهُ، وَرُبَّمَا فَضَّلُوا بَعْضَ الْأَقَارِبِ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْإِحَنِ وَبِهَا تَخْتَلُّ الْحَالَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بِإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ:

وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشُدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْمَرْءِ مَنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ

كَانَ تَغْيِيرُهَا إِلَى حَالِ الْعَدْلِ فِيهَا مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَّا تَفْصِيلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَة: ١٧٨] . أَمَّا مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ عَقِبَ حُكْمِ الْقِصَاصِ فَهُوَ جَرَيَانُ ذِكْرِ مَوْتِ الْقَتِيلِ وَمَوْتِ الْقَاتِلِ قِصَاصًا.

وَالْقَوْلُ فِي كُتِبَ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ قَرِيبٌ مِنَ النَّصِّ فِيهِ. وَتَجْرِيدُهُ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ كَوْنِ مَرْفُوعِهِ مُؤَنَّثًا لَفْظًا لِاجْتِمَاعِ مُسَوِّغَيْنِ لِلتَّجْرِيدِ وَهُمَا كَوْنُ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ بِفَاصِلٍ، وَقَدْ زَعَمَ الشَّيْخُ الرَّضِيُّ أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذَيْنِ الْمُسَوِّغَيْنِ يُرَجِّحُ تَجْرِيدَ الْفِعْلِ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَالدَّرْكُ عَلَيْهِ.

وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ حُضُورُ أَسْبَابِهِ وَعَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ الْمُتَخَيَّلَ لِلنَّاسِ قَدْ حَضَرَ عِنْدَ الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ لِيُصَيِّرَهُ مَيِّتًا قَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا:

وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ

فَإِنَّ حُضُورَ الشَّيْءِ حُلُولُهُ وَنُزُولُهُ وَهُوَ ضِدُّ الْغَيْبَةِ، فَلَيْسَ إِطْلَاقُ حَضَرَ هُنَا مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ الْفِعْلِ عَلَى مُقَارَبَةِ الْفِعْلِ نَحْوَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ وَلَا عَلَى مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَمَا فِي إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: ٦] ، فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [الْمَائِدَة: ٩٨] ، وَلَكِنَّهُ