حُكْمُ الْقِصَاصِ لَمَا ارْتَدَعَ النَّاسُ لِأَنَّ أَشَدَّ مَا تَتَوَقَّاهُ نُفُوسُ الْبَشَرِ مِنَ الْحَوَادِثِ هُوَ الْمَوْتُ، فَلَوْ عَلِمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مُسْتَخِفًّا بِالْعُقُوبَاتِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ لَمَّا أَصَابَ دَمًا وَهَرَبَ فَعَاقَبَهُ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ بِهَدْمِ دَارِهِ بِهَا:
سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا ... عَلِيَّ قَضَاءَ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا
وَأَذْهَلُ عَنْ دَارِي وَأَجْعَلُ هَدْمَهَا ... لِعِرْضِي مِنْ بَاقِي الْمَذَمَّةِ حَاجِبَا
وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِي تِلَادِي إِذَا انْثَنَتْ ... يَمِينِي بِإِدْرَاكِ الَّذِي كُنْتُ طَالِبَا
وَلَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ لِلْأَخْذِ بِالثَّأْرِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَأَفْرَطُوا فِي الْقَتْلِ وَتَسَلْسَلَ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ التَّرْغِيبُ فِي
أَخْذِ مَالِ الصُّلْحِ وَالْعَفْوِ بِنَاقِضٍ لِحِكْمَةِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ الِازْدِجَارَ يَحْصُلُ بِتَخْيِيرِ الْوَلِيِّ فِي قَبُولِ الدِّيَةِ فَلَا يَطْمَئِنُّ مُضْمِرُ الْقَتْلِ إِلَى عَفْوِ الْوَلِيِّ إِلَّا نَادِرًا وَكَفَى بِهَذَا فِي الِازْدِجَارِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أُولِي الْأَلْبابِ تَنْبِيهٌ بِحَرْفِ النِّدَاءِ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةِ الْقِصَاصِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي التَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا أَهْلُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ إِذْ هُوَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ كَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بِمِثْلِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ رَزِيَّةً ثَانِيَةً لَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ هُوَ حَيَاةٌ لَا رَزِيَّةٌ لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
وَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إِكْمَالًا لِلْعِلَّةِ أَيْ تَقْرِيبًا لِأَنْ تَتَّقُوا فَلَا تَتَجَاوَزُوا فِي أَخْذِ الثَّأْرِ حَدَّ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. وَلَعَلَّ لِلرَّجَاءِ وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: ٢١] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَاقَ مَا كَانَ سَائِرًا مَسْرَى الْمَثَلِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ (الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ) وَقَدْ بَيَّنَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «مِفْتَاح الْعُلُوم» و «ذيله» مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَنَزِيدُ عَلَيْهِمْ: أَنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ قَدْ دَلَّ عَلَى إِبْطَالِ التَّكَايُلِ بِالدِّمَاءِ وَعَلَى إِبْطَالِ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ إِذَا لَمْ يَظْفَرُوا بِالْقَاتِلِ وَهَذَا لَا تُفِيدُهُ كلمتهم الجامعة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute