وَالِاسْتِغْرَاقُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (كُلَّ) عُرْفِيٌّ، أَيْ كُلَّ شَيءٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْطَاهُ أَصْنَافُ الْخَلْقِ وَيُنَاسِبُ الْمُعْطِي، أَوْ هُوَ اسْتِغْرَاقٌ عَلَى قَصْدِ التَّوْزِيعِ بِمُقَابلَة الْأَشْيَاء بالخلق، مِثْلُ:
رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.
وَالْمَعْنَى: تَأَمَّلْ وَانْظُرْ هَلْ أَنْتَ أَعْطَيْتَ الْخَلْقَ أَوْ لَا؟ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يعلم أَنه يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، فَإِذَا تَأَمَّلَ عَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي أَفَاضَ الْوُجُودَ وَالنِّعَمَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا، فَآمَنَ بِهِ بِعُنْوَانِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ بِمَعْنَيَيْهِ الزَّمَنِيِّ والْرُتْبِيِّ، أَيْ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ هَدَى إِلَى مَا خَلَقَهُمْ لِأَجْلِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ٨- ١٠] أَيْ طَرِيقَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَيْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : «وَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْجَوَابِ مَا أَخْصَرَهُ وَمَا أَجْمَعَهُ وَمَا أَبَيَنَهُ لِمَنْ أَلْقَى الذِّهْنَ وَنَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ وَكَانَ طَالبا للحق» .
[٥١- ٥٢]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢)
وَالْبَالُ: كَلِمَةٌ دَقِيقَةُ الْمَعْنَى، تُطْلَقُ عَلَى الْحَالِ الْمُهِمِّ، وَمَصْدَرُهُ الْبَالَهُ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ [مُحَمَّد: ٢] ، أَيْ حَالَهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ
... » إِلَخْ، وَتُطْلَقُ عَلَى الرَّأْيِ يُقَالُ: خَطَرَ كَذَا بِبَالِيَ. وَيَقُولُونَ: مَا أَلْقَى لَهُ بَالًا، وَإِيثَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَا مِنْ دَقِيقِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ.