[سُورَة سبإ (٣٤) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢١]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ [سبأ: ٧] الْآيَةَ وَأَن مَا بَينهمَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَسُوقَةِ لِلِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْتِطْرَادِ وَالِاعْتِرَاضِ فَيَكُونُ ضَمِيرُ عَلَيْهِمْ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ الَخْ. وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ضَمِيرَ عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى سَبَأٍ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ. وَلَكِنْ لَا مَفَرَّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ: ٢٢] الْآيَاتِ هُوَ عَوْدٌ إِلَى مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهَا بِذِكْرِ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَهْلِ سَبَأٍ. وَصَلُوحَيَّةُ الْآيَة للمحملين ناشئة مِنْ مَوْقِعِهَا، وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ تَرْتِيبِ مَوَاقِعِ الْآيَةِ.
فَالْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ أَتْبَاعِهِ لِيَحْذَرُوهُ وَيَسْتَيْقِظُوا لِكَيْدِهِ فَلَا يَقَعُوا فِي شَرَكِ وَسْوَسَتِهِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّيْطَانَ سَوَّلَ لِلْمُشْرِكِينَ أَوْ سَوَّلَ لِلْمُمَثَّلِ بِهِمْ حَالُ الْمُشْرِكِينَ الْإِشْرَاكَ
بِالْمُنْعِمِ وَحَسَّنَ لَهُمْ ضِدَّ النِّعْمَةِ حَتَّى تَمَنَّوْهُ وَتَوَسَّمَ فِيهِمُ الِانْخِدَاعَ لَهُ فَأَلْقَى إِلَيْهِمْ وَسْوَسَتَهُ وَكَرَّهَ إِلَيْهِمْ نَصَائِحَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ فَصَدَقَ تَوَسُّمُهُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِدَعْوَتِهِ فَقَبِلُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْ خِلَافِهَا فَاتَّبَعُوهُ.
فَفِي قَوْلِهِ: صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ إِيجَازُ حَذْفٍ لِأَنَّ صِدْقَ الظَّنِّ الْمُفَرَّعِ عَنْهُ اتِّبَاعُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى شَيْءٍ ظَانًّا اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صَدَّقَ بِتَخَفِيفِ الدَّالِ فَ إِبْلِيسُ فَاعِلٌ وظَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي ظَنِّهِ. وعَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ صَدَّقَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَوْقَعَ أَوْ أَلْقَى، أَيْ أَوْقَعَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ فَصَدَقَ فِيهِ. وَالصِّدْقُ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ فِي الظَّنِّ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الصِّدْقِ. قَالَ أَبُو الْغُولِ الطُّهَوِيُّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي ... فَوَارِسَ صَدَقَتْ فِيهِمْ ظُنُونِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute