للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَأَنَّ سَائِلًا اسْتَعْظَمَ هَذَا الْعَذَابَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ.

وَالِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِاعْتِبَارِ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: هَلْ جُزُوا بِغَيْرِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ.

وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِفِعْلِ يُجْزَوْنَ لِأَنَّ (جَزَى) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى، كَمَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ بِالْبَاء عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى: عَوَّضَهُ.

وَجُعِلَ جَزَاؤُهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مِثْلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُعَادَلَةِ فِيمَا يُجَاوِزُونَهُ بِمُسَاوَاةِ الْجَزَاءِ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي جُوزُوا عَلَيْهَا حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦] .

وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ مُمَاثِلًا فِي الْمِقْدَارِ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مُقَدِّرُ الْحَقَائِقِ وَالنِّيَّاتِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ وِفاقاً فِي النَّوْعِ فَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَغْلَالِ فِي الْأَعْنَاقِ مَنْعٌ مِنْ حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي أنفسهم فَنَاسَبَ نَوعه أَن يكون جَزَاء على مَا عبّدوا بِهِ أَنْفُسِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥] وَمَا تَقَبَّلُوهُ مِنِ اسْتِعْبَادِ زُعَمَائِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ إِيَّاهُمْ قَالَ تَعَالَى:

وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَاب: ٦٧] .

وَمِنْ غُرَرِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ عَرَفَةَ لَمَّا كَانَ عَرَضَ عَلَيْهِ فِي دَرْسِ التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٧١] فَسَأَلَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: هَلْ يَسْتَقِيمُ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُؤَيِّدُ فِعْلَ الْأُمَرَاءِ أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمُحَارِبِينَ وَنَحْوِهِمْ مَغْلُولِينَ مِنْ أَعْنَاقِهِمْ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فِي حَدِّ الْفَاحِشَةِ) فَأَجَابَهُ الشَّيْخُ بِأَنْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا لِأَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا أَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا بُدَّ لِجَوَازِهِ من دَلِيل.

[٣٤]

[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٣٤]

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤)

اعْتِرَاضٌ لِلِانْتِقَالِ إِلَى تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا مُنِيَ بِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ