للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَقِيقِيٌّ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْمَجَازَ غَلَبَ حَتَّى سَاوَى

الْحَقِيقَةَ، قَالَ تَعَالَى: مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاء: ١٠٢] وَقَالَ:

ذَمُّ الْمَنَازِلِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ... وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ

وَفِيه تَجْرِيد الْإِسْنَاد مَسْؤُلًا إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سُؤَالُ أَصْحَابِهَا، وَهُوَ مِنْ نُكَتِ بلاغة الْقُرْآن.

[٣٧]

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٣٧]

وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)

نُهِيَ عَنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ خَصْلَةُ الْكِبْرِيَاءِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَمَّدُونَهَا. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ.

وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَلَيْسَ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَا بَعْدَهُ.

وَالْمَرَحُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ-: شِدَّةُ ازْدِهَاءِ الْمَرْءِ وَفَرَحِهِ بِحَالِهِ فِي عَظَمَةِ الرِّزْقِ.

ومَرَحاً مَصْدَرٌ وَقَعَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَمْشِ. وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ حَالًا كمجيئه صفة يرد مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الِاتِّصَافِ. وَتَأْوِيلُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَمْشِ مَارِحًا، أَيْ مِشْيَةَ الْمَارِحِ، وَهِيَ الْمِشْيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمَاشِي بِتَمَايُلٍ وَتَبَخْتُرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرَحاً مَفْعُولًا مُطْلَقًا مُبَيِّنًا لِفِعْلِ تَمْشِ لِأَنَّ لِلْمَشْيِ أَنْوَاعًا، مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ ذُو مَرَحٍ.

فَإِسْنَادُ الْمَرَحِ إِلَى الْمَشْيِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَشْيُ مَرَحًا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَشْيِ شِدَّةُ وَطْءٍ عَلَى الْأَرْضِ وَتَطَاوُلٌ فِي بَدَنِ الْمَاشِي.

وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ اسْتِئْنَاف ناشىء عَنِ النَّهْيِ بِتَوْجِيهِ خِطَابٍ ثَانٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْمَاشِي مَرَحًا