وَكَلِمَةُ مِنْ بَعْدِهِ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهَا وَهُوَ الْمُغَايرَة والمجاوزة: أَيْ فَمَنِ الَّذِي يَنْصُرُكُمْ دُونَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَيْ دُونَ اللَّهِ، فَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لَا مَحَالَةَ، وَاسْتِعْمَالُ (بَعْدُ) فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣] وَأَصْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ كَالتَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ: بِأَنْ مُثِّلَتِ الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ تَقْدِيرِ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ مَنْ أَسْلَمَ الَّذِي اسْتَنْصَرَ بِهِ وَخَذَلَهُ فَتَرَكَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ مَعَكَ إِذَا وَلَّى عَنْك فقد خذللك فَحَذَفَ مَا يَدُلُّ على الْحَالة الْمُشبه بِهَا وَرَمَزَ إِلَيْهِ بِلَازِمَةٍ وَهُوَ لَفْظُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَجُمْلَةُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى ارْتِكَابِ أَسْبَابِ نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى: مِنْ أَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ، وَأَسْبَابٍ نَفْسَانِيَّةٍ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَاتِّبَاعُ رِضَى الله تَعَالَى.
[١٦١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ عطف الْغَرَض رعلى الْغَرَضِ وَمَوْقِعُهُ عَقِبَ جُمْلَةِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ [آل عمرَان: ١٦٠] . الْآيَةَ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللَّهِ والخذل بِيَدِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيضَ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ لِيَكُونَ لَطِيفًا بِمَنْ يُرْضُونَهُ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ النَّصَائِحُ وَالْمَوَاعِظُ مُوَجَّهَةً إِلَيْهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ، نُبِّهُوا إِلَى شَيْءٍ يَسْتَخِفُّ بِهِ الْجَيْشُ فِي الْغَزَوَاتِ، وَهُوَ الْغُلُولُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَيَحْذَرُوهُ وَيَكُونُوا مِمَّا هُوَ أَدْعَى لِغَضَبِ اللَّهِ أَشَدَّ حَذَرًا فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْغُلُولِ وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ هَزِيمَتِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ تَعَجُّلُهُمْ إِلَى أَخْذِ الْغَنَائِمِ.
وَالْغُلُولُ: تَعَجُّلٌ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ غَالِّ الْغَنِيمَةِ.
وَلَا تَجِدُ غَيْرَ هَذَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِتَعْقِيبِ آيَةِ النَّصْرِ بِآيَةِ الْغُلُولِ، فَإِنَّ غَزْوَةَ
أُحُدٍ الَّتِي أَتَتِ السُّورَةُ عَلَى قِصَّتِهَا لَمْ يَقَعْ فِيهَا غُلُولٌ وَلَا كَائِنٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا غَنِيمَةٌ وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَضِيَّةِ غُلُولٍ وَقَعَتْ يَوْمَ بَدْرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute