اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَاتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ الِابْتِدَاءِ بِمَا نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَجَلِّهِ ابْتِدَاءً لِيَكُونَ كُلُّ مِثَالٍ مِنْهَا دَالًّا عَلَى بَقِيَّةِ نَوْعِهِ وَمُرْشِدًا إِلَى حُكْمِ أَمْثَالِهِ دُونَ كُلْفَةٍ وَلَا سَآمَةٍ. وَقَدْ سَلَكَ الْقُرْآنُ لِإِقَامَةِ أَهَمِّ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ طَرِيقَ النَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهَا مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفْسَدَةِ مُقَدَّمٌ فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ.
وَعَطْفُ وَاتَّقُوا اللَّهَ تَكْمِلَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ إِبْرَامِ شَيْءٍ دُونَ إِذن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ، أَيْ ضِدُّهُ لَيْسَ مِنَ التَّقْوَى وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِلْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ.
وَالسَّمِيعُ: الْعَلِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْعَلِيمُ أَعَمُّ وَذَكَرَهَا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ كِنَايَةً عَنِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ للنَّهْي وَالْأَمر.
[٢]
[سُورَة الحجرات (٤٩) : آيَة ٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)
إِعَادَةُ النِّدَاءِ ثَانِيًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْغَرَضِ وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ غَرَضٌ جَدِيرٌ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ حَتَّى لَا يَنْغَمِرَ فِي الْغَرَضِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ آدَابِ سُلُوكِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُعَاملَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُقْتَضَى التَّأَدُّبِ بِمَا هُوَ آكَدُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى.
وَهَذَا أَيْضًا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: ٤] وَإِلْقَاءٌ لِتَرْبِيَةٍ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ لِمُنَاسَبَةِ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ خَبَرِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ.
وَالرَّفْعُ: مُسْتَعَارٌ لِجَهْرِ الصَّوْتِ جَهْرًا مُتَجَاوِزًا لِمُعْتَادِ الْكَلَامِ، شَبَّهَ جَهْرَ الصَّوْتِ بِإِعْلَاءِ الْجِسْمِ فِي أَنَّهُ أَشَدُّ بُلُوغًا إِلَى الْأَسْمَاعِ كَمَا أَنَّ إِعْلَاءَ الْجِسْمِ أَوْضَحُ لَهُ فِي الْإِبْصَارِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، أَوْ شَبَّهَ إِلْقَاءَ الْكَلَامِ بِجَهْرٍ قَوِيٍّ بِإِلْقَائِهِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ كَالْمِئْذَنَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute