وَاللَّامُ فِي وَأَصْلِحْ لِي لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ أَصْلَحْ فِي ذُرِّيَّتِي لِأَجْلِي وَمَنْفَعَتِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] . وَنُكْتَةُ زِيَادَةِ هَذَا فِي الدُّعَاءِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ تَعَرَّضَ إِلَى نَفَحَاتِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ إِصْلَاحَ ذُرِّيَّتِهِ وَعَرَّضَ بِأَنَّ إصلاحهم لفائدته، وهذ تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْإِجَابَةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا ابْتَدَأْتَنِي بِنِعْمَتِكَ وَابْتَدَأْتَ وَالِدِيَّ بِنِعْمَتِكَ وَمَتَّعْتَهُمَا بِتَوْفِيقِي إِلَى بِرِّهِمَا، كَمِّلْ إِنْعَامَكَ بِإِصْلَاحِ ذُرِّيَّتِي فَإِنَّ إِصْلَاحَهُمْ لِي. وَهَذِهِ تَرْقِيَاتٌ بَدِيعَةٌ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ.
وَمَعْنَى ظَرْفِيَّةِ فِي ذُرِّيَّتِي أَنَّ ذُرِّيَّتَهُ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الظَّرْفِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ مَا هُوَ بِهِ الْإِصْلَاحُ وَيَحْتَوِي عَلَيْهِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَمَكُّنَ الْإِصْلَاحِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ وَتَغَلْغُلَهُ فِيهِمْ. وَنَظِيرُهُ فِي الظَّرْفِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: ٢٨] .
وَجُمْلَةُ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ كَالتَّعْلِيلِ لِلْمَطْلُوبِ بِالدُّعَاءِ تَعْلِيلَ تَوَسُّلٍ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِالنِّعْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَبِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ حَرْفُ (إِنَّ) فِي مَقَامِ التَّعْلِيلِ وَيُغْنِي غِنَاءَ الْفَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ: الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ تَوْبَةٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَبِكَوْنِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ تَبِعَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ. وَقَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَسْلَمْتُ كَمَا قَالَ: تُبْتُ
إِلَيْكَ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ وَهُوَ التَّجَدُّدُ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُتَجَدِّدَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ دُفْعَةً فَيَسْتَقِرُّ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ، وَفِيهِ الرَّعْيُ عَلَى الْفَاصِلَةِ. هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِمَا تُعْطِيهِ تَرَاكِيبُهَا وَنَظْمُهَا دُونَ تَكَلُّفٍ وَلَا تَحَمُّلٍ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَهْلٍ لِوِصَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِوَالِدَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِنْ كَانَا مُؤمنين.
[١٦]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
جِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها [الْأَحْقَاف: ١٤] . وَكَوْنُهُ إِشَارَةَ جَمْعٍ وَمُخْبِرَةٌ عَنْهُ بِأَلْفَاظِ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute