[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٢٠]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
اعْتِرَاضٌ انْتِقَالِيٌّ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ بِمَرْأًى مِنْهُمْ، إِلَى إِرْشَادِهِمْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِمَا هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَتَعَاقُبِ الْأُمَمِ وَخَلْفِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَإِنَّ تَعَوُّدَ النَّاسِ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَصْرِفُ عُقُولَهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ دَقَائِقِهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِيُشَاهِدُوا آثَارَ خَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ عَدَمٍ فَيُوقِنُوا أَنَّ إِعَادَتَهَا بَعْدَ زَوَالِهَا لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنِ ابْتِدَاءِ صُنْعِهَا.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ السَّيْرَ يُدْنِي إِلَى الرَّائِي مُشَاهَدَاتٍ جَمَّةً مِنْ مُخْتَلَفِ الْأَرَضِينَ بجبالها وأنهارها ومحويّاتها وَيَمُرُّ بِهِ عَلَى مَنَازِلِ الْأُمَمِ حَاضِرِهَا وَبَائِدِهَا فَيَرَى كَثِيرًا مِنْ أَشْيَاءَ وَأَحْوَالٍ لَمْ يَعْتَدْ رُؤْيَةَ أَمْثَالِهَا، فَإِذَا شَاهَدَ ذَلِكَ جَالَ نَظَرُ فِكْرِهِ فِي تَكْوِينِهَا بَعْدَ الْعَدَمِ جَوَلَانًا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ حِينَمَا كَانَ يُشَاهِدُ أَمْثَالَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي دِيَارِ قَوْمِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَشَأَ فِيهَا مِنْ زَمَنِ الطُّفُولَةِ فَمَا بَعْدَهُ قَبْلَ حُدُوثِ التَّفْكِيرِ فِي عَقْلِهِ اعْتَادَ أَنْ يَمُرَّ بِبَصَرِهِ عَلَيْهَا دُونَ اسْتِنْتَاجٍ مِنْ دَلَائِلِهَا حَتَّى إِذَا شَاهَدَ أَمْثَالَهَا مِمَّا كَانَ غَائِبًا عَنْ بَصَرِهِ جَالَتْ فِي نَفْسِهِ فِكْرَةُ الِاسْتِدْلَالِ، فَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ وَسِيلَةٌ جَامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ الدَّلَائِلِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ مِنْ جَوَامِعِ الْحِكْمَةِ. وَجِيءَ فِي جَانِبِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّ السَّائِرَ لَيْسَ لَهُ مِنْ قَرَارٍ فِي طَرِيقِهِ فَنَدَرَ أَنْ يَشْهَدَ حُدُوثَ بَدْءِ مَخْلُوقَاتٍ، وَلَكِنَّهُ يَشْهَدُ مَخْلُوقَاتٍ مَبْدُوءَةً مِنْ قَبْلُ فَيَفْطِنُ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهَا إِنَّمَا أَوْجَدَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ أَمْثَالِهَا فَهُوَ بِالْأَحْرَى قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهَا بَعْدَ عَدَمِهَا.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي مَضَتْ أَمْكَنُ لِأَنَّ لِلشَّيْءِ الْمُتَقَرِّرِ تَحَقُّقًا مَحْسُوسًا.
وَجِيءَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِ النَّظَرِ لِأَنَّ إِدْرَاكَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ حَاصِلٌ بِطَرِيقِ الْبَصَرِ وَهُوَ بِفِعْلِ النَّظَرِ أَوْلَى وَأَشْهَرُ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى إِدْرَاكِ أَنَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute