وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : أَنَّ مُقَاتِلًا كَانَ شَيْخَ الْمُرْجِئَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَسْوَأِ عَلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي حَالِ مَا وَصَفَهُمُ الله بالتقوى وَهُوَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَسْوَأِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ اهـ. وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» وَجَوَابُهُ: لِأَنَّ الْأَسْوَأَ مُحْتَمَلٌ أَنَّ أَدِلَّة كَثِيرَة أُخْرَى تُعَارِضُ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِهَا. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كلمة أَسْوَأَ وكملة أحسن محسّن الطّبق.
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلٍ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلٍ خَالِصٍ لِرَجُلٍ، كَانَ ذَلِكَ الْمَثَلُ مُثِيرًا لِأَنْ يَقُولَ قَائِلُ الْمُشْرِكِينَ لَتَتَأَلَّبَنَّ شُرَكَاؤُنَا عَلَى الَّذِي جَاءَ يُحَقِّرُهَا وَيَسُبُّهَا، وَمُثِيرًا لِحَمِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْتَصِرُوا لِآلِهَتِهِمْ كَمَا قَالَ مُشْرِكُو قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٦٨] . وَرُبَّمَا أَنْطَقَتْهُمْ حَمِيَّتُهُمْ بِتَخْوِيفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا نَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ مَعَرَّتَهَا (بِعَيْنٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ بِمَكْرُوهٍ يَعْنُونَ الْمَضَرَّةَ) لِعَيْبِكَ إِيَّاهَا» . وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مَا هُوَ بِمَعْنَى هَذَا، فَلَمَّا حَكَى تَكْذِيبَهُمْ النَّبِيءَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى مَا هَدَّدُوهُ بِهِ وَخَوَّفُوهُ مِنْ شَرِّ أَصْنَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ [الزمر: ٢٩] الْآيَةَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَدْتُهُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ كَافِيكَ شَرَّ الْمُشْرِكِينَ وَبَاطِلَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ، فَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِتَعْجِيلِ مَسَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَعْجِيلُ مَسَرَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَامِنٌ لَهُ الْوِقَايَةَ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١٣٧] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute