للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِك الْأَمر باليسر فِي الْأَرْضِ لِيَنْظُرُوا آثَارَ الْأُمَمِ فَيَرَوْا مِنْهَا آثَارَ اسْتِئْصَالٍ مُخَالِفٍ لِأَحْوَالِ الْفَنَاءِ الْمُعْتَادِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْفَنَاءِ لَأَمَرَهُمْ بِمُشَاهَدَةِ الْمَقَابِرِ وَذِكْرِ السّلف الْأَوَائِل.

[٣٧]

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٧]

إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)

اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ تَقْسِيمَ كُلِّ أُمَّةٍ ضَالَّةٍ إِلَى مُهْتَدٍ مِنْهَا وَبَاقٍ عَلَى الضَّلَالِ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَهُوَ جَارٍ عَلَى حَالِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ جَمِيعًا. وَذَلِكَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّهُمْ سَيَبْقَى مِنْهُمْ فَرِيقٌ عَلَى ضَلَالَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ:

الْأُولَى: التَّعْرِيضُ بِالثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِرْصِهِ عَلَى خَيْرِهِمْ مَعَ مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ الْحَنَقَ فِي نَفْسِ مَنْ يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَلَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ يَنْشَأُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَوَانِيَّةِ.

واللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ غَالِبَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ سَيَكُونُونَ مُهْتَدِينَ وَأَنَّ الضَّلَالَ مِنْهُمْ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ هَدْيَهُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِمَا نَشَأَ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي هَيَّأَتْ لَهُمُ الْبَقَاءَ فِي الضَّلَالِ.

وَالْحِرْصُ: فَرْطُ الْإِرَادَةِ الْمُلِحَّةِ فِي تَحْصِيلِ الْمُرَادِ بِالسَّعْيِ فِي أَسْبَابِهِ.

وَالشَّرْطُ هُنَا لَيْسَ لِتَعْلِيقِ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ مَعْلُومُ الْحُصُولِ، لِأَنَّ عَلَامَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ