[سُورَة التَّوْبَة (٩) : الْآيَات ١٢٨ إِلَى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ شِدَّةٍ وَغِلْظَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنَ الْأَعْرَابِ، وَأَمْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجِهَادِ، وَإِنْحَاءً عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي شَأْنِهِ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالْمُتَّصِفِينَ بِضِدِّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَالَّذِينَ نَصَرُوا وَاتَّبَعُوا الرَّسُولَ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ.
فَجَاءَتْ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ آيَتَيْنِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْمِنَّةِ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّنْوِيهِ بِصِفَاتِهِ الْجَامِعَةِ لِلْكَمَالِ. وَمِنْ أَخَصِّهَا حِرْصُهُ عَلَى هُدَاهُمْ، وَرَغْبَتُهُ فِي إِيمَانِهِمْ وَدُخُولِهِمْ فِي جَامِعَةِ الْإِسْلَامِ لِيَكُونَ رَؤُوفًا رَحِيمًا بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا لَقِيَهُ الْمُعْرِضُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِغْلَاظِ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا هُوَ إِلَّا اسْتِصْلَاحٌ لِحَالِهِمْ. وَهَذَا مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُقَارِنَةً لِبِعْثَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] ، بِحَيْثُ جَاءَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُزِيلَ الْحَرَجَ مِنْ قُلُوبِ الْفِرَقِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِمْ آيَاتُ الشِّدَّةِ وَعُومِلُوا بِالْغِلْظَةِ تَعْقِيبًا لِلشِّدَّةِ بِالرِّفْقِ وَلِلْغِلْظَةِ بِالرَّحْمَةِ، وَكَذَلِكَ عَادَةُ الْقُرْآنِ.
فَقَدِ انْفَتَحَ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بَابُ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ لِيَدْخُلَهَا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَفِي وُقُوعِهَا آخِرَ السُّورَةِ مَا يُكْسِبُهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَالْخُلَاصَةِ.
فَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: جاءَكُمْ وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الْخِطَابِ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ الْمَدْعُوَّةِ لِلْإِسْلَامِ. وَالْمَقْصُود بِالْخِطَابِ بادىء ذِي بَدْءٍ هُمُ الْمُعْرِضُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَ الْخطاب بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَسَيَجِيءُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَرَبُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute