للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٣]

كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)

هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ التَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ خَالِقِهِمْ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ سَبَبَ التَّعْجِيبِ، فَجِيءَ فِي جَانِبِ الْمَأْفُوكِينَ بِالْمَوْصُولِ لِأَن الصِّلَة تومىء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ، أَيْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى الْجَحْدِ بِآيَاتِ اللَّهِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَدَبُّرٍ فِي مَعَانِيهَا وَدَلَائِلِهَا يَطْبَعُ نُفُوسَهُمْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنِ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ تَعَالَى. فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْإِفْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فعل تُؤْفَكُونَ [غَافِر: ٦٢] أَيْ مِثْلُ إِفْكِكُمْ ذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غَافِر: ٦٢] ، وَيَكُونُ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ تُؤْفَكُونَ، أَيْ مِثْلُ إِفْكِكُمْ تُؤْفَكُونَ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ إِفْكَهُمْ بَلَغَ فِي كُنْهِ الْإِفْكِ النِّهَايَةَ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ الْمُقَرِّبُ أَنْ يُقَرِّبَهُ لِلسَّامِعِينَ بِشَبِيهٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ شَبِيهًا لَهُ أَوْضَحَ مِنْهُ وَأَجْلَى فِي مَاهِيَّتِهِ فَلَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَأْلُوفَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣] ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ إِفْكِهِمْ تَعْلِيلًا صَرِيحًا.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ كُلَّ مَنْ جَحَدَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ الْمُومَى إِلَيْهِ بِالصِّلَةِ تَعْلِيلًا تَعْرِيضِيًّا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِفْكُ شَأْنَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُلِّهِمْ فَقَدْ شَمِلَ ذَلِكَ هَؤُلَاءِ بِحُكْمِ الْمُمَاثَلَةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ، وَذُكِرَ فِعْلُ الْكَوْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْجَحْدَ بِآيَاتِ اللَّهِ شَأْنُهُمْ وَهِجِّيرَاهُمْ.

وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَخْلَاقِ الْعِلْمِيَّةِ، فَإِنَّ الْعُقُولَ الَّتِي تَتَخَلَّقُ بِالْإِنْكَارِ