وَقَدْ مَثَّلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ تُفَّاحَةً وَاحِدَةً فَتِلْكَ التُّفَّاحَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ (أَيْ جَوَاهِرُ فَرْدَةٌ) ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ دَلِيلٌ تَامٌّ مُسْتَقِلٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ صِفَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مِنَ الطَّبْعِ وَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَاخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ هُوَ مِنَ الْجَائِزَاتِ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصَّصٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ التُّفَّاحَةِ دَلِيلٌ تَامٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى، ثُمَّ عَدَدُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَأَحْوَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
وَلَعَلَّ إِيثَارَ فِعْلِ لَا تَفْقَهُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا تَعْلَمُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ عِلْمٌ دَقِيقٌ فَيُؤَيِّدُ مَا نَحَّاهُ فَخْرُ الدِّينِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَبِّحُ- بِيَاءِ الْغَائِب- وقرأه أَبُو عَمْرٌو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بتاء جمَاعَة الْمُؤَنَّث- وَالْوَجْهَانِ جَائِزَانِ فِي جُمُوعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَغَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ مَقَالَتَهُمْ تَقْتَضِي تَعْجِيلَ
الْعِقَابِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِالْحِلْمِ وَالْإِمْهَالِ. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْحَثِّ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ مَقَالَتِهِمْ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
وَزِيَادَةُ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحِلْمَ وَالْغُفْرَانَ صِفَتَانِ لَهُ محققتان.
[٤٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٤٥]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)
عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ وَقِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَوَّهَ بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاء: ٩] ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِمَا اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute