للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٧]

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)

كَانَ مِمَّا حُكِيَ مِنْ مَقَالَاتِ كُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ إِفْنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ الْعَظِيمِ وَإِحْيَاءَ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ أَمْرٌ مُسْتَحِيلٌ، وَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ.

ثُمَّ انْتَقَلَ الْكَلَامُ عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى بَسْطِ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَسَلْسَلَ الْبَيَانُ، وَتَفَنَّنَتِ الْأَغْرَاضُ بِالْمُنَاسَبَاتِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَيُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ عَيَّنَهُ فِي عِلْمِهِ لِحِكْمَتِهِ وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مُفَاجَأَتِهِ، فَثَنَى عِنَانَ الْكَلَامِ إِلَى الِاعْتِرَاضِ بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يخرج عَن قُدْرَتِهِ أَعْظَمَ فِعْلٍ مِمَّا غَابَ عَنْ إِدْرَاكِهِمْ وَأَنَّ أَمْرَ السَّاعَةِ الَّتِي أَنْكَرُوا إِمْكَانَهَا وَغَرَّهُمْ تَأْخِيرُ حُلُولِهَا هِيَ مِمَّا لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ مَتَى شَاءَهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِحَيْثُ لَمْ يُغَادِرْ شَيْئًا مِمَّا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَجِدَالِهِمْ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمُ اسْتِقْصَاءً لِلْأَعْذَارِ لَهُمْ.

وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَأْخِيرِ هَذَا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ بِصَرِيحِهِ عَلَى تَعْلِيمٍ، وَبِإِيمَائِهِ إِلَى تَهْدِيدٍ وَتَحْذِيرٍ.

فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَامُ الْمِلْكِ. وَالْغَيْبُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيِ الْأَشْيَاءُ الْغَائِبَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سُورَة الْبَقَرَة: ٣] . وَهُوَ الْغَائِبُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ وَالْعَوَالِمِ الَّتِي لَا تَصِلُ

إِلَى مُشَاهَدَتِهَا حَوَاسُّ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ.

وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَيْضًا أَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا.