للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة:

٢٤] نَعَمْ تَظْهَرُ مَزِيَّتُهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الذُّنُوبِ.

رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَادَةِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ سَخِرُوا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَائِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَوَعَدَ اللَّهُ الْفُقَرَاءَ بِالرِّزْقِ وَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِقَطْعِ الرِّزْقِ عَنْهُمْ وَزَوَالِ حُظْوَتِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إِلَخْ تَذْيِيلٌ قُصِدَ مِنْهُ تَعْظِيمُ تَشْرِيفِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرْتَبِطًا بِمَا قَبْلَهُ فَالسَّامِعُ يَعْلَمُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ مَعْنًى مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ فَوْقِيَّةً عَظِيمَةً لَا يُحِيطُ بِهَا الْوَصْفُ، لِأَنَّهَا فَوْقِيَّةٌ مُنِحُوهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَفَضْلُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلِأَن من سُخْرِيَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ سَخِرُوا بِفُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِإِقْلَالِهِمْ.

وَالْحِسَابُ هُنَا حَصْرُ الْمِقْدَارِ فَنَفْيُ الْحِسَابِ نَفْيٌ لِعِلْمِ مِقْدَارِ الرِّزْقِ، وَقَدْ شَاعَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا شَاعَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا يُعَدُّونَ بِالْأَصَابِعِ وَيُحِيطُ بِهَا الْعَدُّ كِنَايَةً عَنِ الْقِلَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ شَيْءٌ لَا يُحْصَى وَلِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُنْفَى الْحِسَابُ هُنَا عَنْ أَمْرٍ لَا يُعْقَلُ حِسَابُهُ وَهُوَ الْفَوْقِيَّةُ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:

مَا تَمْنَعِي يَقْظَى فَقَدْ تُؤْتَيْنَهُ ... فِي النَّوْمِ غَيْرَ مُصَرَّدٍ مَحْسُوبِ

[٢١٣]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢١٣]

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَدْيَانِ أَمر كَانَ فِي الْبشر الْحِكْمَة اقتضته وَأَنه قد ارْتَفَعَ ذَلِكَ وَرَجَعَ اللَّهُ بِالنَّاسِ إِلَى وَحْدَةِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ.

وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَهَا تَحْتَمِلُ وُجُوهًا:

الْأَوَّلُ: قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا [الْبَقَرَة: ٢١٢] أَنَّ سَبَبَ إِصْرَارِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ هُوَ اسْتِبْدَالُهُمُ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِه الْحَالة غير مُخْتَصَّةٌ بِالَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ