للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٣٤]

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)

انْتِقَالٌ إِلَى بَيَانِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَن عدَّة طَلَاق وَمَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِرْضَاعِ عَقِبَ الطَّلَاقِ، تَقَصِّيًا لِمَا بِهِ إِصْلَاحُ أَحْوَالِ الْعَائِلَاتِ، فَهُوَ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.

وَيُتَوَفَّوْنَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي الْتَزَمَتِ الْعَرَبُ فِيهَا الْبِنَاءَ لِلْمَجْهُولِ مِثْلَ عُنِيَ وَاضْطُرَّ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ فِعْلٍ قَدْ عُرِفَ فَاعِلُهُ مَا هُوَ، أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا لَهُ فَاعِلًا مُعَيَّنًا.

وَهُوَ مِنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ أَوْ تَوَفَّاهُ الْمَوْتُ فَاسْتِعْمَالُ التَّوَفِّي مِنْهُ مَجَازٌ، تَنْزِيلًا لِعُمْرِ الْحَيِّ مَنْزِلَةَ حَقٍّ لِلْمَوْتِ، أَوْ لِخَالِقِ الْمَوْتِ، فَقَالُوا: تُوُفِّيَ فُلَانٌ كَمَا يُقَالُ: تُوُفِّيَ الْحَقُّ وَنَظِيرُهُ قُبِضَ فُلَانٌ، وَقُبِضَ الْحَقُّ فَصَارَ الْمُرَادُ مِنْ تُوُفِّيَ: مَاتَ، كَمَا صَارَ الْمُرَادُ مِنْ قَبَضَ وَشَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: ٤٢] وَقَالَ: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [النِّسَاء: ١٥] وَقَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَة: ١١] فَظَهَرَ الْفَاعِلُ الْمَجْهُولُ عِنْدَهُمْ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَبْقَى اسْتِعْمَالَ الْفِعْلِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ إِيجَازًا وَتَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ.

وَقَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خَبَرُ (الَّذِينَ) وَقَدْ حَصَلَ الرَّبْطُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِضَمِيرِ يَتَرَبَّصْنَ، الْعَائِدِ إِلَى الْأَزْوَاجِ، الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَةِ، فَهُنَّ أَزْوَاجُ الْمُتَوَفِّينَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ قَائِمٌ مَقَامَ الظَّاهِرِ، وَهَذَا الظَّاهِرُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُبْتَدَأِ، بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ مِنَ الِاكْتِفَاءِ فِي الرَّبْطِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ

عَلَى اسْمٍ مُضَافٍ إِلَى مِثْلِ الْعَائِدِ، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ، كَمَا فِي «التسهيل» و «شَرحه» ، وَلِذَلِكَ قَدَّرُوا هُنَا: (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ) بَعْدَهُمْ كَمَا قَالُوا: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ» أَيْ مِنْهُ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ إِلَخْ يَتَرَبَّصْنَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَذْفٌ لِمُضَافٍ، وَبِذَلِكَ قُدِّرَ فِي «الْكَشَّافِ» دَاعِيَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ:

وَمِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، فَيَكُونُ يَتَرَبَّصْنَ:

اسْتِئْنَافًا، وَكُلُّهَا تَقْدِيرَاتٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا بَعْدَ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى.