للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : آيَة ٢٧]

إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)

تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ إِطَاعَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: ٢٤] ، أَيْ لِأَنَّ خُلُقَهُمُ الِانْصِبَابُ عَلَى الدُّنْيَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ إِذْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَوْ أَعْطَاهُمْ لَتَخَلَّقَ بِخُلُقِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ الْآيَة [النِّسَاء: ٨٩] . فَمَوْقِعُ إِنَّ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ.

وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرِينَ فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ لِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ هؤُلاءِ دُونَ سَبْقِ مَا يَكُونُ مُشَارًا إِلَيْهِ فَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٠٩] .

وَقَدْ تَنَزَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا

فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا»

فَلَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لِأُمُورِهَا عَدَا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ كَمَا

قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ»

. فَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْمَيْلُ إِلَيْهِنَّ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِ الذُّكُورِ، وَمَا بِالطَّبْعِ لَا يَتَخَلَّفُ، وَفِي الْأُنْسِ بِهِنَّ انْتِعَاشٌ لِلرُّوحِ فَتَنَاوُلُهُ مَحْمُودٌ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَرَّأِ مِنَ الْإِيقَاعِ فِي فَسَادٍ وَمَا هُوَ الْأَمْثَلُ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَشُرْبُ الْمَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرَّعْد: ٣٨] .

وَأَمَّا الطِّيبُ فَلِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلتَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ.

وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُحِبُّونَ تَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ وَدَيْدَنُهُمْ لَا يُشَارِكُونَ مَعَ حُبِّ الْعَاجِلَةِ حُبَّ الْآخِرَةِ.

والْعاجِلَةَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ تَقْدِيرُهُ: الْحَيَاةُ الْعَاجِلَةُ، أَوِ الدَّارُ الْعَاجِلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهَا مُدَّةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَكَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْعَاجِلَةِ عَلَى الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ [الْقِيَامَة: ٢٠، ٢١] فَشَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَسْمِيَةُ الدُّنْيَا بِالْعَاجِلَةِ.