للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٢]

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢)

إِجْرَاءُ الصِّفَاتِ على الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] بِالتَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ وَبِتَكْرِيرِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ فَلَاحِهِمْ وَعِلَّتِهِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مَنْ هَاتِهِ الْخِصَالِ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ فَلَاحِهِمْ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ سَبَبٌ لِلْفَلَاحِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّ سَبَبَ فَلَاحِهِمْ مَجْمُوعُ الْخِصَالِ الْمَعْدُودَةِ هُنَا فَإِنَّ الْفَلَاحَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِخِصَالٍ أُخْرَى مِمَّا هُوَ مَرْجِعُ التَّقْوَى، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِه الْخِصَال تنبىء عَنْ رُسُوخِ الْإِيمَانِ مِنْ صَاحِبِهَا اعْتُبِرَتْ لِذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ، كَمَا كَانَتْ أَضْدَادُهَا كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: ٤٢- ٤٦] عَلَى أَنَّ ذِكْرَ عِدَّةِ أَشْيَاءٍ لَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ.

وَالْخُشُوعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥] وَفِي قَوْلِهِ: وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٠] . وَهُوَ خَوْفٌ يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُشُوعَ، أَيِ الْخُشُوعَ لِلَّهِ، يَقْتَضِي التَّقْوَى فَهُوَ سَبَبُ فَلَاحٍ.

وَتَقْيِيدُهُ هُنَا بِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ لِقَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَبِالْخُشُوعِ

وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْخُشُوعَ لِلَّهِ يَكُونُ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، إِذِ الْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ يَتَلَبَّسُ بِهِ الْمُصَلِّي فِي حَالَةِ صَلَاتِهِ.

وَذُكِرَ مَعَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَوْلَى الْحَالَاتِ بِإِثَارَةِ الْخُشُوعِ وَقُوَّتِهِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ، وَلِأَنَّهُ بِالصَّلَاةِ أَعْلَقُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ خُشُوعٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعٌ لَهُ، وَلِأَنَّ الْخُشُوعَ لَمَّا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ أَوْلَى الْأَحْوَالِ بِهِ حَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَيَخْشَعُ لَهُ. وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَهِيَ رَأْسُ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَصْدَرُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا.