وَيُوَجَّهُ الْعُدُولُ عَن مُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ إِلَى مَا جَاءَ النَّظْمُ عَلَيْهِ، بِأَنَّ فِيهِ تَنْزِيلُ الشَّيْءِ الْمُيَسَّرِ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُيَسَّرَ لَهُ وَالْعَكْسُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ثُبُوتِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ الْمَقْبُولِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: «عَرَضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ» ، وَقَوْلِ الْعَجَّاجِ:
وَمَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤُهُ ... كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ
وَقَدْ وَرَدَ الْقَلْبُ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [الْقَصَص: ٧٦] وَمِنْهُ الْقَلْبُ التَّشْبِيهُ الْمَقْلُوبُ.
وَالْمَعْنَى: وَعْدُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ يَسَّرَهُ لِتَلَقِّي أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ فَلَا تَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا تُحْرِجُهُ تَطْمِينًا لَهُ إِذْ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِ إِرْسَالِهِ مُشْفِقًا أَنْ لَا يَفِيَ بِوَاجِبَاتِهَا. أَيْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ قَابِلًا لِتَلَقِّي الْكَمَالَاتِ وَعَظَائِمِ تَدْبِيرِ الْأُمَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَشُقَّ عَلَى الْقَائِمِينَ بِأَمْثَالِهَا.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا التَّيْسِيرِ مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَار أيسرهما»
،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ لَا معسّرين»
. [٩- ١٣]
[سُورَة الْأَعْلَى (٨٧) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٣]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)
بَعْدَ أَنْ ثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَفَّلَ لَهُ مَا أَزَالَ فَرَقَهُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ دَفْعِ مَا خَافَهُ مِنْ ضَعْفٍ عَنْ أَدَائِهِ الرِّسَالَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَتَكَفَّلَ لَهُ دَفْعَ نِسْيَانِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ إِنْسَاؤُهُ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَوَعْدُهُ بِأَنَّهُ وَفَّقَهُ وَهَيَّأَهُ لِذَلِكَ وَيَسَّرَهُ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَبْدَأِ عَهْدِهِ بِالرِّسَالَةِ (إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ثَامِنَةَ السُّوَرِ) لَا يَعْلَمُ مَا سَيَتَعَهَّدُ اللَّهُ بِهِ فَيَخْشَى أَنْ يُقَصِّرَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ فَيَلْحَقُهُ غَضَبٌ مِنْهُ أَوْ مَلَامٌ. أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُ بِالتَّذْكِيرِ، أَيِ التَّبْلِيغِ، أَيْ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ، إِرْهَافًا لِعَزْمِهِ، وَشَحْذًا لِنَشَاطِهِ لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute