تَضَمَّنَتْهُ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦، ٧] الْآيَةَ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمِيعًا كَانُوا عَلَى حَالَةٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ لِيُسْرِعُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مُرْتَبِكُونَ.
وَالْقَوْمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمْ: إِمَّا الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيُّونَ فَإِنَّهُمْ مَضَتْ قُرُونٌ لَمْ يَأْتِهِمْ فِيهَا نَذِيرٌ، وَمَضَى آبَاؤُهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا نَذِيرًا، وَإِنَّمَا يُبْتَدَأُ عَدُّ آبَائِهِمْ مِنْ جَدِّهِمُ الْأَعْلَى فِي عَمُودِ نَسَبِهِمُ الَّذِينَ تَمَيَّزُوا بِهِ جِذْمًا وَهُوَ عَدْنَانُ، لِأَنَّهُ جِذْمُ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْرِبَةِ، أَوْ أُرِيدَ أَهْلُ مَكَّةَ. وَإِنَّمَا بَاشَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ بِعْثَتِهِ دَعْوَةَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ وَأَنْ تَتَأَصَّلَ مِنْهُمْ جَامِعَةُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ كَانُوا هُمْ حَمَلَةَ الشَّرِيعَةِ وَأَعْوَانَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. فَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ أَهْلُ يَثْرِبَ وَهُمْ قَحْطَانِيُّونَ فَكَانُوا أَنْصَارًا ثُمَّ تَتَابَعَ إِيمَانُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَهُمْ غافِلُونَ أَيْ فَتَسَبَّبَ عَلَى عَدَمِ إِنْذَارِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْغَفْلَةِ وَصْفًّا ثَابِتًا، أَيْ فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا تَأْتِي بِهِ الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ فَهُمْ فِي جَهَالَةٍ وَغَوَايَةٍ إِذْ تَرَاكَمَتِ الضَّلَالَاتُ فِيهِمْ عَامًا فَعَامًا وَجِيلًا فَجِيلًا.
فَهَذِهِ الْحَالَةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَنْ دَعَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ مَنْ آمَنَ بَعْدُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ.
وَالْغَفْلَةُ: صَرِيحُهُا الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ، وَهِيَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهْمَالِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَحِقُّ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
يَقُولُ أُنَاسٌ يَجْهَلُونَ خَلِيقَتِي ... لَعَلَّ زيادا لَا أَبَاك غافل
[٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٧]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)
هَذَا تَفْصِيلٌ لِحَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنْذِرَهُمْ، فَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لم تَنْفَع
فيهم النِّذَارَةُ، وَقِسْمٌ اتَّبَعُوا الذِّكْرَ وَخَافُوا اللَّهَ فَانْتَفَعُوا بِالنِّذَارَةِ. وَبَيَّنَ أَنَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جَبَلَ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute