[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : آيَة ٢٨]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
لَمَّا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الْإِنْسَان: ٢٧] يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ
يُنْكِرُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى إِنْكَارِهِ شُبْهَةَ اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ بِلَاهَا وَفَنَائِهَا، وَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ مَسُوقًا مَسَاقَ الذَّمِّ لَهُمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ جِيءَ هُنَا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالٌ لِشُبْهَتِهِمْ بِبَيَانِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ يُعِيدُهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاء:
٥١] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْحَائِمَةِ حَوْلَ هَذَا الْمَعْنَى.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ دُونَ أَنْ تُفْتَتَحَ بِ خَلَقْناهُمْ أَوْ نَحْنُ خَالِقُونَ، لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ وَتَحْقِيقِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنِيِّينَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ.
وَتَقْوِيَةُ الْحُكْمِ بِنَاءٌ عَلَى تَنْزِيلِ أُولَئِكَ الْمَخْلُوقِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ حَيْثُ لم يجرؤوا عَلَى مُوجِبِ الْعِلْمِ فَأَنْكَرُوا أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْبِلَى، فَكَأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ لِغَيْرِهِ. وَتَقَوِّي الْحُكْمِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا شَاءَ بَدَّلَ أَمْثَالَهُمْ بِإِعَادَةِ أَجْسَادِهِمْ فَلِذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدِ جُمْلَةِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ، اسْتِغْنَاءً بِتَوَلُّدِ مَعْنَاهَا عَنْ مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْوِيَةِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَهَذَا التَّقَوِّي هُنَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ كَلَامًا يَعْقُبُهُ هُوَ مَصَبُّ التَّقَوِّي، وَنَظِيرُهُ فِي التَّقَوِّي وَالتَّفْرِيعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ فَإِنَّ الْمُفَرَّعَ هُوَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ. وَجُمْلَةُ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ مُعْتَرِضَةٌ وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة الْوَاقِعَة [٥٧- ٦١] .
ف أَمْثالَهُمْ: هِيَ الْأَجْسَادُ الثَّانِيَةُ إِذْ هِيَ أَمْثَالٌ لِأَجْسَادِهِمُ الْمَوْجُودَةِ حِينَ التَّنْزِيلِ.
وَالشَّدُّ: الْإِحْكَامُ وَإِتْقَانُ ارْتِبَاطِ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ بِوَاسِطَةِ الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ إِذْ بِذَلِكَ يَسْتَقِلُّ الْجِسْمُ.
وَالْأَسْرُ: الرَّبْطُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute