[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٨١]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
الضَّمَائِرُ الْبَارِزَةُ فِي (بَدَّلَهُ وسَمعه وإثمه ويبدلونه) عَائِدَةٌ إِلَى الْقَوْلِ أَوِ الْكَلَامِ الَّذِي يَقُولُهُ الْمُوصِي وَدَلَّ عَلَيْهِ لفظ الْوَصِيَّةُ [الْبَقَرَة: ١٨٠] ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَمِعَهُ إِذْ إِنَّمَا تُسْمَعُ الْأَقْوَالُ وَقِيلَ هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْإِيصَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: الْوَصِيَّةُ أَيْ كَمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْفِعْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨] ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى بِالْمَعْرُوفِ [الْبَقَرَة: ١٨٠] ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ الْوَاقِعَةَ بِالْمَعْرُوفِ، لِأَنَّ الْإِثْمَ فِي تَبْدِيلِ الْمَعْرُوفِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي:
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَة: ١٨٢] .
وَالْمُرَادُ مِنَ التَّبْدِيلِ هُنَا الْإِبْطَالُ أَو النَّقْص وَمَا صدق (مَنْ بَدَّلَهُ) هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ خَاصَّةِ الْوَرَثَةِ كَالْأَبْنَاءِ وَمِنَ الشُّهُودِ عَلَيْهَا بِإِشْهَادٍ مِنَ الْمُوصِي أَوْ بِحُضُورِ مَوْطِنِ الْوَصِيَّةِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ [الْمَائِدَة: ١٠٦] فَالتَّبْدِيلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّبْدِيلِ جَعْلُ شَيْءٍ فِي مَكَانِ شَيْءٍ آخَرَ وَالنَّقْضُ يَسْتَلْزِمُ الْإِتْيَانَ بِضِدِّ الْمَنْقُوضِ وَتَقْيِيدَ التَّبْدِيلِ بِظَرْفِ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ أَيْ لِأَنَّهُ بَدَّلَ مَا سَمِعَهُ وَتَحَقَّقَهُ وَإِلَّا فَإِنَّ التَّبْدِيلَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا فِي مَعْلُومٍ مَسْمُوعٍ إِذْ لَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى الْمَجْهُولِ.
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما إِثْمُهُ إِضَافِيٌّ، لِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنِ الْمُوصِي وَإِلَّا فَإِنَّ إِثْمَهُ أَيْضًا يَكُونُ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَجْعَلْهُ لَهُ الْمُوصِي مَعَ عِلْمِهِ إِذَا حَابَاهُ مُنَفِّذُ الْوَصِيَّةِ أَوِ الْحَاكِمُ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا، وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ»
، وَإِنَّمَا انْتَفَى الْإِثْمُ عَنِ الْمُوصِي لِأَنَّهُ اسْتَبْرَأَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَوْصَى بِالْمَعْرُوفِ فَلَا وِزْرَ عَلَيْهِ فِي مُخَالَفَةِ النَّاسِ بَعْدَهُ لَمَا أَوْصَى بِهِ، إِذْ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْم: ٣٨- ٣٩] .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ إِبْطَالُ تَعَلُّلِ بَعْضِ النَّاسِ بِتَرْكِ الْوَصِيَّةِ بِعِلَّةِ خِيفَةِ أَلَّا يُنَفِّذَهَا الْمَوْكُولُ إِلَيْهِمْ تَنْفِيذُهَا، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالْإِيصَاءِ وَوُجُوبُ التَّنْفِيذِ مُتَعَيِّنٌ عَلَى نَاظِرِ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ بَدَّلَهُ فَعَلَيْهِ إِثْمُهُ، وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أَي هَذَا التَّبْدِيلَ يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ وَيَضْرِبُ وُلَاةُ الْأُمُورِ عَلَى يَدِ مَنْ يُحَاوِلُ هَذَا التَّبْدِيلَ لِأَنَّ الْإِثْمَ لَا يُقَرِّرُ شَرْعًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute