وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ مَرَضَ فَعَادَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَمَنَعَهُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ،
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَرَثَةٌ وَلَوْ عَصَبَةٌ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ جَازَ لِلْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَمَضَى ذَلِكَ أَخْذًا بِالْإِيمَاءِ إِلَى الْعِلَّةِ فِي قَوْلِهِ «إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ» إِلَخْ. وَقَالَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَالِ جَامِعٌ لَا عَاصِبٌ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي إِمْضَائِهَا لِلْوَارِثِ إِذَا أَجَازَهَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنَّهَا إِذَا أَجَازَهَا الْوَارِثُ مَضَتْ.
هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ كَيْفِيَّةَ قِسْمَةِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَأَنَّ آيَةَ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةَ هُنَا صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهَا ظَاهِرُهَا، فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ قَالُوا: بَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ بِمَا زَادَ عَلَى نَصِيبِهِ مِنَ الْمِيرَاثِ فَلَا نَسْخَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
وَالْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ يَقُولُ مِنْهُمْ مَنْ يَرَوْنَ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَزَلْ مَفْرُوضَةً لِغَيْرِ الْوَارِثِ: إِنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتِ الِاخْتِيَارَ فِي الْمُوَصَّى لَهُ وَالْإِطْلَاقَ فِي الْمِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ، وَمَنْ يَرَى
مِنْهُمُ الْوَصِيَّةَ قَدْ نُسِخَ وُجُوبُهَا وَصَارَتْ مَنْدُوبَةً يَقُولُونَ: إِنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا فَأَصْبَحَتِ الْوَصِيَّةُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ عُمُومَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ، وَنَسَخَتِ الْإِطْلَاقَ الَّذِي فِي لَفْظِ (الْوَصِيَّةِ) وَالتَّخْصِيصَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، وَالتَّقْيِيدَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ كِلَاهُمَا نُسِخَ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُنَاقِضُ آيَةَ الْوَصِيَّةِ، لِاحْتِمَالِهَا أَنْ يَكُونَ الْمِيرَاثُ بَعْدَ إِعْطَاءِ الْوَصَايَا أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصِيَّةِ بَلْ ظَاهِرُهَا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [النِّسَاء: ١١] ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثَانِ الْوَارِدَانِ فِي ذَلِكَ آحَادًا لَا يَصْلُحَانِ لِنَسْخِ الْقُرْآنِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَوْنَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، فَقَدْ ثَبَتَ حُكْمٌ جَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ وَهُوَ النَّدْبُ أَوِ الْوُجُوبُ عَلَى الْخِلَافِ فِي غَيْرِ الْوَارِثِ وَفِي الثُّلُثِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْمُسْتَنِدِ لِلْأَحَادِيثِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ حُكْمٌ جَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنَ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَنِدٌ لِلْإِجْمَاعِ، هَذَا تَقْرِيرُ أَصْلِ اسْتِنْبَاطِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهِ مَا يَدْفَعُ عَنِ النَّاظِرِ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ لِلْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ فِي تَقْرِيرِ كَيْفيَّة النّسخ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute