وَصِيغَ (يُدَبِّرُ) وَ (يُفَصِّلُ) بِالْمُضَارِعِ عَكْسَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالتَّفْصِيلَ مُتَجَدِّدٌ مُتَكَرِّرٌ بِتَجَدُّدِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورَاتِ. وَأَمَّا رَفْعُ السَّمَاوَاتِ وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ تَمَّ وَاسْتَقَرَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
[٣]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ شِبْهُ التَّضَادِّ. اشْتَمَلَتِ الْأُولَى عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَاشْتَمَلَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ السُّفْلِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَالِقُ جَمِيعِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا.
وَالْمَدُّ: الْبَسْطُ وَالسِّعَةُ، وَمِنْهُ: ظِلٌّ مَدِيدٌ، وَمِنْهُ مَدُّ الْبَحْرِ وَجَزْرُهُ، وَمَدَّ يَدَهُ إِذَا بَسَطَهَا.
وَالْمَعْنَى: خَلَقَ الْأَرْضَ مَمْدُودَةً مُتَّسِعَةً لِلسَّيْرِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا أَسْنِمَةً مِنْ حَجَرٍ أَوْ جِبَالًا شَاهِقَةً مُتَلَاصِقَةً لَمَا تَيَسَّرَ لِلْأَحْيَاءِ الَّتِي عَلَيْهَا الِانْتِفَاعُ بِهَا وَالسَّيْرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ فَمَدَّهَا بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ، فَهَذِهِ خِلْقَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ وَعَلَى اللُّطْفِ بِعِبَادِهِ فَهِيَ آيَةٌ وَمِنَّةٌ.
وَالرَّوَاسِي: جَمْعُ رَاسٍ، وَهُوَ الثَّابِتُ الْمُسْتَقِرُّ. أَيْ جِبَالًا رَوَاسِيَ. وَقَدْ حُذِفَ مَوْصُوفُهُ لِظُهُورِهِ فَهُوَ كَقَوْلِه: وَلَهُ الْجَوارِ، أَيِ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ. وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٥] بِأَبْسَطَ مِمَّا هُنَا.
وَجِيءَ فِي جَمْعِ رَاسٍ بِوَزْنِ فَوَاعِلَ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ، وَوَزْنُ فَوَاعِلَ يَطَّرِدُ فِيمَا مُفْرَدُهُ صِفَةٌ لِغَيْرِ عَاقِلٍ مِثْلَ: صَاهِلٍ وَبَازِلٍ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْجِبَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ لِمَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِخِلَافِ خِلْقَةِ الْمَعَادِنِ وَالتُّرَابِ فَهِيَ خَفِيَّةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: ١٩] .