[سُورَة الْقدر (٩٧) : آيَة ٣]
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)
بَيَانٌ أَوَّلُ لِشَيْءٍ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ٢] مِثْلُ الْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ [الْبَلَد: ١٢، ١٤] الْآيَةَ. فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَوْ لِأَنَّهَا كَعَطْفِ الْبَيَانِ.
وَتَفْضِيلُهَا بِالْخَيْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ. إِنَّمَا هُوَ بِتَضْعِيفِ فَضْلِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَوَفْرَةِ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ وَالْبَرَكَةِ لِلْأُمَّةِ فِيهَا، لِأَنَّ تَفَاضُلَ الْأَيَّامِ لَا يَكُونُ بِمَقَادِيرِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ مَطَرٍ، وَلَا بِطُولِهَا أَوْ بِقِصَرِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْبَأُ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الصَّلَاحِ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ وَمَا يُعِينُ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَنَشْرِ الدِّينِ. وَقَدْ قَالَ فِي فَضْلِ النَّاسِ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣] فَكَذَلِكَ فَضْلُ الْأَزْمَانِ إِنَّمَا يُقَاسُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهَا لِأَنَّهَا ظُرُوفٌ لِلْأَعْمَالِ وَلَيْسَتْ لَهَا صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَتَفَاضَلَ بِهَا كَتَفَاضُلِ النَّاسِ فَفَضْلُهَا بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا مِنَ التَّفْضِيلِ كَتَفْضِيلِ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ لِلْقُرُبَاتِ وَعَدَدُ الْأَلْفِ يَظْهَرُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي وَفْرَةِ التكثير كَقَوْلِه: «وَاحِد كَأَلْفٍ» وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [الْبَقَرَة: ٩٦] وَإِنَّمَا جُعِلَ تَمْيِيزُ عَدَدِ الْكَثْرَةِ هُنَا بِالشَّهْرِ لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ الَّتِي هِيَ بِحَرْفِ الرَّاءِ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : «قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسَ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارُ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا من الْعَمَل مثل مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ اهـ.
وَإِظْهَارُ لَفْظِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلِاهْتِمَامِ، وَقد تكَرر هَذَا اللَّفْظُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْمَرَّاتُ الثَّلَاثُ يَنْتَهِي عِنْدَهَا التَّكْرِيرُ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ [آل عمرَان: ٧٨] .
وَقَوْلُ عَدِيٍّ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
وَمِمَّا يَنْبَغِي التنبه لَهُ مَا وَقَعَ
فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» بِسَنَدِهِ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute