[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٢٩]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
لَمَّا كَانَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ جَامِعًا بَيْنَ كَوْنِهِ نِعْمَةً وَكَوْنِهِ آيَةً دَالَّةً عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِهِ إِلَى ذِكْرِ آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ آيَةُ خَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعَظِيمَةِ وَمَا فِيهَا مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ لِلنَّاسِ دُونَ قَصْدِ الِامْتِنَانِ. وَهَذَا الِانْتِقَالُ اسْتِطْرَادٌ وَاعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي سِيَاقُ الْآيَاتِ فِيهَا.
وَالْآيَاتُ: جَمْعُ آيَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى شَيْءٍ. وَالسِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آيَات الإلهية. وَالسَّمَوَات: الْعَوَالِمُ الْعُلْيَا غَيْرُ الْمُشَاهَدَةِ لَنَا وَالْكَوَاكِبُ وَمَا تَجَاوَزَ الْأَرْضَ مِنَ الْجَوِّ. وَالْأَرْضُ: الْكُرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ. وَالْبَثُّ: وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَالدَّابَّةُ: مَا يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ يَمْشِي فَيَشْمَلُ الطَّيْرَ لِأَنَّ الطَّيْرَ يَمْشِي إِذَا نَزَلَ وَهُوَ مِمَّا أُرِيدَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: فِيهِما أَيْ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ، أَيْ بَعْضِ مَا يُسَمَّى بِالسَّمَاءِ وَهُوَ الْجَوُّ وَهُوَ مَا يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ مِثْلَ قُبَّةٍ زَرْقَاءَ عَلَى الْأَرْضِ فِي النَّهَارِ، قَالَ تَعَالَى:
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ [النَّحْل: ٧٩] فَإِطْلَاقُ الدَّابَّةِ عَلَى الطَّيْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الطَّيْرَ يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ كَثِيرًا لِالْتِقَاطِ الْحَبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي فِي السَّمَوَات العلى مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْوَاحِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ دَابَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي بَعْضِ السَّمَاوَاتِ مَوْجُودَاتٌ تَدُبُّ فِيهَا فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَالْعُلَمَاءُ يَتَرَدَّدُونَ فِي إِثْبَاتِ سُكَّانٍ فِي الْكَوَاكِبِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي كَوْكَبِ الْمَرِّيخِ سُكَّانًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: ٨] ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِما ظَرْفِيَّةَ الْمَجْمُوعِ لَا الْجَمِيعِ، أَيْ مَا بَثَّ فِي مَجْمُوعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مِنْ دَابَّةٍ، فَالدَّابَّةُ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَمَّا ذُكِرَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ مُقْتَرِنَتَيْنِ وَجَاءَ ذِكْرُ الدَّوَابِّ جُعِلَتِ الدَّوَابُّ مَظْرُوفَةً فِيهِمَا لِأَنَّ الْأَرْضَ مَحُوطَةٌ بِالسَّمَاوَاتِ وَمُتَخَيَّلَةٌ مِنْهَا كَالْمَظْرُوفِ فِي ظَرْفِهِ، وَالْمَظْرُوفُ فِي ظَرْفٍ مَظْرُوفٌ فِي ظَرْفِ مَظْرُوفِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرَّحْمَن: ١٩] ثُمَّ قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute