[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
لَمَّا ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَيَّدَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّصْرِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِأَنْ نَصَرَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَأَعْقَبُهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ مَعَ الْكَافِرِينَ بِهِ اعْتَرَضَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِمْ من الوهن والقرار، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: ١٢] وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ [الْأَنْفَال: ١٧] الْآيَةَ وَفِي هَذَا تَدْرِيبٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهِيَ خُطَّةٌ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ لَمْ يَزِدْهَا الْإِسْلَامُ إِلَّا تَقْوِيَةً، قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي ... حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِتَالِ بَدْرٍ، وَلَعَلَّ مُرَادَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ حُكْمَهَا نَزَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ أُثْبِتَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ النَّازِلَةِ بَعْدَ الْمَلْحَمَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَاتِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ ثُمَّ رُتِّبَتْ فِي التِّلَاوَةِ فِي مَكَانِهَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَاللِّقَاءُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ وَاضِحَةٌ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٥] ، وَأَصْلُ اللِّقَاءِ أَنَّهُ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ.
وَالزَّحْفُ أَصْلُهُ مَصْدَرُ زَحَفَ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا انْبَعَثَ مِنْ مَكَانِهِ مُتَنَقِّلًا على مقعدته يجرر جيله كَمَا يَزْحَفُ الصَّبِيُّ.
ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَشْيِ الْمُقَاتِلِ إِلَى عَدُوِّهِ فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ زَحْفٌ لِأَنَّهُ يَدْنُو إِلَى الْعَدُوِّ بِاحْتِرَاسٍ وَتَرَصُّدِ فُرْصَةٍ، فَكَأَنَّهُ يَزْحَفُ إِلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute