للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَعْمَالِهِ كَانَ معرّضا لِأَن يعتلق بِهِ أَذًى مِنْ سَبٍّ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَجْرِ الْمُشْرِكِينَ هَجْرًا جَمِيلًا، أَيْ أَنْ يَهْجُرَهُمْ وَلَا يَزِيدَ عَلَى هَجْرِهِمْ سَبًّا أَوِ انْتِقَامًا.

وَهَذَا الْهَجْرُ: هُوَ إِمْسَاكُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُكَافَأَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يَقُولُونَهُ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ.

وَلَيْسَ مُنْسَحِبًا عَلَى الدَّعْوَةِ لِلدِّينِ فَإِنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ وَلَكِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنْسَبُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَدِ انْتَزَعَ فَخْرُ الدِّينِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعًا خُلُقِيًّا بِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِيحَاشِهِمْ لِأَنَّهُ إِنْ أَطْمَعَ نَفْسَهُ بِالرَّاحَةِ مَعَهُمْ لَمْ يَجِدْهَا مُسْتَمِرَّةً فَيَقَعُ فِي الْغُمُومِ إِنْ لَمْ يَرِضْ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَإِنْ تَرَكَ الْمُخَالَطَةَ فَذَلِكَ هُوَ الهجر الْجَمِيل.

[١١]

[سُورَة المزمل (٧٣) : آيَة ١١]

وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)

الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [٤٤] ، أَيْ دَعْنِي وَإِيَّاهُمْ، أَيْ لَا تَهْتَمَّ بِتَكْذِيبِهِمْ وَلَا تَشْتَغِلْ بِتَكْرِيرِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَلَا تَغْضَبْ وَلَا تَسُبَّهُمْ فَأَنَا أَكْفِيكَهُمْ.

وَانْتَصَبَ الْمُكَذِّبِينَ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْمَعِيَّةِ.

وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ عَنَاهُمْ بِضَمِيرِ يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ [المزمل: ١٠] ، وهم المكذبون للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ أَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ سَبَبُ هَذَا التَّهْدِيدِ.

وَوَصَفَهُمْ بِ أُولِي النَّعْمَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا لِغُرُورِهِمْ وَبَطَرِهِمْ بِسَعَةِ حَالِهِمْ، وَتَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي قَالَ ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ سَيُزِيلُ عَنْهُمْ ذَلِكَ التَّنَعُّمَ.

وَفِي هَذَا الْوَصْفِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهَكُّمِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ سَعَةَ الْعَيْشِ وَوَفْرَةَ الْمَالِ