للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالدَّارَ الْأُولَى مِلْكُهُ بِمَا فِيهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [الْمَائِدَة: ١٧] فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَحْسِبُوا أَنَّ عَلَيْهِمْ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَا تَفَضَّلَ بِهِ.

وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إِلَى أَنَّ أُمُورَ الْجَزَاءِ فِي الْأُخْرَى تَجْرِي عَلَى مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ وَأَعْلَمَ بِهِ عِبَادَهُ. وَأَنَّ نِظَامَ أُمُور الدُّنْيَا وترتب مُسَبَّبَاتِهِ عَلَى أَسْبَابِهِ أَمْرٌ قَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِالْحِفَاظِ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ وَهَدَى، فَمَنْ فَرَّطَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحَقَّ مَا تسبب فِيهِ.

[١٤- ٢١]

[سُورَة اللَّيْل (٩٢) : الْآيَات ١٤ إِلَى ٢١]

فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨)

وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ إِذَا كَانَ فِعْلُ: «أَنْذَرْتُكُمْ» مُسْتَعْمَلًا فِي مَاضِيهِ حَقِيقَةً وَكَانَ الْمُرَادُ الْإِنْذَارَ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى إِلَى قَوْله: تَرَدَّى [اللَّيْل: ٨- ١١] . وَهَذِهِ الْفَاءُ يُشْبِهُ مَعْنَاهَا مَعْنَى فَاءِ الْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ تَفْرِيعُ إِنْذَارٍ مُفَصَّلٍ عَلَى إِنْذَارٍ مُجْمَلٍ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ الْمَعْنَوِيِّ فَيَكُونُ فِعْلُ «أَنْذَرْتُكُمْ» مُرَادًا بِهِ الْحَالُ وَإِنَّمَا صِيغَ فِي صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِتَقْرِيبِ زَمَانِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ كَمَا فِي: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَقَوْلِهِمْ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا فَعَلْتَ كَذَا، أَيْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ، وَمِثْلَ مَا فِي صِيَغِ الْعُقُودِ:

كَبِعْتُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [اللَّيْل: ١٢] وَالْمَعْنَى: هَدْيُكُمْ فَأَنْذَرْتُكُمْ إِبْلَاغًا فِي الْهُدَى.

وَتَنْكِيرُ نَارًا لِلتَّهْوِيلِ، وَجُمْلَةُ تَلَظَّى نَعْتٌ. وتلظى: تَلْتَهِبُ مِنْ شِدَّةِ الِاشْتِعَالِ.

وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّظَى مَصْدَرِ: لَظِيَتِ النَّارُ كَرَضِيَتْ إِذَا الْتَهَبَتْ، وَأَصْلُ تَلَظَّى تَتَلَظَّى بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِلِاخْتِصَارِ.