بِعِلْمِهِمْ بِذَلِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ:
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ [١٤] .
ونَفْسٌ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ [١٤] .
وَمَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ: هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي قَدَّمَتْهُ النَّفْسُ، أَيْ عَمِلَتْهُ مُقَدَّمًا وَهُوَ مَا عَمِلَتْهُ فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ، وَالْعَمَلُ الَّذِي أَخَّرَتْهُ، أَيْ عَمِلَتْهُ مُؤَخَّرًا أَيْ فِي آخِرِ مُدَّةِ الْحَيَاةِ، أَوِ المُرَاد بالتقديم الْمُبَادرَة بِالْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّأْخِيرِ مُقَابِلُهُ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هذَيْن تَعْمِيم التَّوْقِيف عَلَى جَمِيعِ مَا عَمِلَتْهُ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
فِي سُورَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [١٣] .
وَالْعِلْمُ يَتَحَقَّقُ بِإِدْرَاكِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنْ قَبْلُ وَبِتَذَكُّرِ مَا نُسِيَ لِطُولِ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ. وَهَذَا وَعِيدٌ بِالْحِسَابِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالسُّورَةِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: ٩] ، وَوَعْدٌ
لِلْمُتَّقِينَ، وَمُخْتَلَطٌ لِمَنْ عَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخر سَيِّئًا.
[٦- ٨]
[سُورَة الانفطار (٨٢) : الْآيَات ٦ إِلَى ٨]
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (٨)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَدِّمَةِ لَهُ لِتَهْيِئَةِ السَّامِعِ لِتَلَقِّي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مِنَ التهويل والإنذار يهيّىء النَّفْسَ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ إِذِ الْمَوْعِظَةُ تَكُونُ أَشَدَّ تَغَلْغُلًا فِي الْقلب حِينَئِذٍ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ السَّامِعُ مِنِ انْكِسَارِ نَفْسِهِ وَرِقَّةِ قَلْبِهِ فَيَزُولُ عَنْهُ طُغْيَانُ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ فَخَطَرَ فِي النُّفُوسِ تَرَقُّبُ شَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
النداء لِلتَّنْبِيهِ تَنْبِيهًا يُشْعِرُ بِالِاهْتِمَامِ بِالْكَلَامِ وَالِاسْتِدْعَاءِ لِسَمَاعِهِ فَلَيْسَ النِّدَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ إِذْ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ طَلَبُ إِقْبَالٍ وَلَا هُوَ مُوَجَّهٌ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ مِثْلُهُ يَجْعَلُهُ الْمُتَكَلِّمُ مُوَجَّهًا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُهُ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ جُمْهُورُ