الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ، أَيْ هُمُ الْغَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنَ الْبَدِيعِ الْجَمْعُ بَيْنَ لَا يَعْلَمُونَ ويَعْلَمُونَ. وَفِيهِ الطِّبَاقُ مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظَانِ لَا مِنْ جِهَةِ مُتَعَلِّقِهِمَا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٠٢] .
[٨]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٨]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرّوم: ٧] لِأَنَّهُمْ نَفَوُا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ فَسِيقَ إِلَيْهِمْ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.
فَضَمِيرُ يَتَفَكَّرُوا عَائِدٌ إِلَى الْغَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ غَافِلُونَ وَعَجِيبٌ عَدَمُ تَفَكُّرِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ أَنَّ لِإِحَالَتِهِمْ رُجُوعَ الدَّالَّةِ إِلَى الرُّومِ بَعْدَ انْكِسَارِهِمْ سَبَبَيْنَ:
أَحَدُهُمَا: اعْتِيَادُهُمْ قَصْرَ أَفْكَارِهِمْ عَلَى الْجَوَلَانِ فِي الْمَأْلُوفَاتِ دُونَ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ، وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَهُوَ أَعْظَمُ مَا أَنْكَرُوهُ لِهَذَا السَّبَبِ.
وَثَانِيهُمَا: تَمَرُّدُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ شَاهَدُوا مُعْجِزَتَهُ فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَقْضِ آرَائِهِمْ فِي هَذَيْنِ السَّبَبَيْنَ.
وَالتَّفَكُّرُ: إِعْمَالُ الْفِكْرِ، أَيِ الْخَاطِرِ الْعَقْلِيِّ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٠] .
وَالْأَنْفُسُ: جَمَعُ نَفْسٍ. وَالنَّفْسُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى بَاطِنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [الْمَائِدَة: ١١٦]