للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤٤]

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)

انْتِقَالٌ عَنِ التَّأْيِيسِ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ إِدْرَاكُ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ ثَانٍ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمُ الَّتِي أَنْبَأَ عَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٤٢] ، فَ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ إِنْكَارٍ إِلَى إِنْكَارٍ وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِاسْتِفْهَامٍ عَطَفَتْهُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي قَبْلَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ أَتَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.

وَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ نَفْيُ أَثَرِ السَّمَاعِ وَهُوَ فَهْمُ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا يلقيه إِلَيْهِم الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إِلَّا مَنْ هُوَ كَالَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا

تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ

[النَّمْل: ٨٠] .

وَعَطْفُ أَوْ يَعْقِلُونَ عَلَى يَسْمَعُونَ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ الدَّلَائِلَ غَيْرَ الْمَقَالِيَّةِ وَهِيَ دَلَائِلُ الْكَائِنَاتِ قَالَ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: ١٠١] .

وَإِنَّمَا نُفِيَ فَهْمُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا حَالُ دَهْمَائِهِمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَفِيهِمْ مَعْشَرٌ عُقَلَاءُ يَفْهَمُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْكَائِنَاتِ وَلَكِنَّهُمْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَأَنِفُوا مِنْ أَنْ يَعُودُوا أَتْبَاعًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسَاوِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضُعَفَاءِ قُرَيْشٍ وَعَبِيدِهِمْ مِثْلِ عَمَّارٍ، وَبِلَالٍ.

وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِنْكَارِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ نَفْيِ فَهْمِهِمْ لِمَا يَسْمَعُونَ مَعَ سَلَامَةِ حَوَاسِّ السَّمْعِ مِنْهُمْ، فَكَانَ تَشْبِيهُهُمْ بِالْأَنْعَامِ تَبْيِينًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ حُصُولِ اختراق أصوات الدعْوَة آذَانَهُمْ مَعَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا لِعَدَمِ تَهَيُّئِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، فَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّقْرِيبُ وَالْإِمْكَانُ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:

فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ

وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى أَكْثَرِهِمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى لَفْظِهِ كَمَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ يَسْمَعُونَ.