للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٢٠٨ إِلَى ٢٠٩]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)

اسْتِئْنَافٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ انتهازا للفرصة بالدعوة إِلَى الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ عَقِبَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى تَقْسِيمِ النَّاسِ تُجَاهَ الدِّينِ مَرَاتِبَ، أَعْلَاهَا مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٠٧] لِأَنَّ النَّفْسَ أَغْلَى مَا يُبْذَلُ، وَأَقَلَّهَا مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: ٢٠٤] أَيْ يُضْمِرُ الْكَيْدَ وَيُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ مَا فِيهِ نَفْعُ الْجَمِيعِ وَهُوَ خَيْرَاتُ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَدَى عَلَى قَوْمٍ مُسَالِمِينَ فَنَاسَبَ بعد ذَلِك أَنْ يُدْعَى النَّاسُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السِّلْمِ وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ تَقْوَى وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَعْنَى طَلَبِ الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ.

وَالْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْعُنْوَانِ، وَلِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْصُولِ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ.

وَ (الدُّخُولُ) حَقِيقَتُهُ نُفُوذُ الْجِسْمِ فِي جِسْمٍ أَوْ مَكَانٍ مُحَوَّطٍ كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى حُلُولِ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ يُقَالُ دَخَلَ بِلَادَ بَنِي أَسَدٍ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاتِّبَاعِ وَالِالْتِزَامِ وَشِدَّةِ التَّلَبُّس بِالْفِعْلِ.

و (السّلم) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ اللَّامِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَقَرَأَ بَاقِي الْعَشَرَةِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَيُقَالُ سَلَمٌ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاء: ٩٤] وَحَقِيقَةُ السِّلْمِ الصُّلْحُ وَتَرْكُ الْحَرْبِ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:

السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُزَعُ

وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ وَقَالَ زُهَيْرٌ:

وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا بِكَسْرِ السِّينِ وَاشْتِقَاقِهِ مِنَ السَّلَامَةِ وَهِيَ النَّجَاةُ مَنْ أَلَمٍ أَوْ ضُرٍّ أَوْ عِنَادٍ يُقَالُ أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِفُلَانٍ أَيْ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا بِدُونِ مُقَاوَمَةٍ، وَاسْتَسْلَمَ طَلَبَ السِّلْمِ أَيْ تَرَكَ الْمُقَاوَمَةَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَسِلْمٌ