للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمُكَابَرَةِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ فِي الْمَعْلُومَاتِ تُصْرَفُ عَنِ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ فَتَخْتَلِطُ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَاتُ وَلَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ.

[٦٤]

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٤]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً.

اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ بِنَاءً عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي فَسَّرْنَا بِهَا مَوْقِعَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: ٦١] كَمَا تَقَدَّمَ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تِعْدَادِ دَلَائِلِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ وَبِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَفْتَضِحَ خَطَلُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ وَكُفْرَانِ نِعَمِهِ، فَذَكَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِآثَارِ قُدْرَتِهِ فِي إِيجَادِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِجَوَاهِرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَهُمَا عَرَضَا الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، وَفِي كِلَيْهِمَا نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَى النَّاسِ، وَذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآثَارِ خَلْقِ الْجَوَاهِرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ هِيَ نِعْمَةٌ لَهُمْ، وَفِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى صُوَرٍ صَالِحَةٍ بِهِمْ، فَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ إِلَخْ بَدَلًا مِنْ رَبُّكُمْ فِي وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [غَافِر: ٦٠] ، فَإِنَّ جُمْلَةَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً تَكُونُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.

وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ إِلَهِيَّتِهِ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ إِتْقَانِ صُنْعِهِ الْمَمْزُوجِ بِنِعْمَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ خَبَرًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِامْتِنَانِ وَالِاعْتِبَارِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الِامْتِنَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمُ قُدِّمَتِ الْأَرْضُ عَلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مَحْسُوسٌ وَذُكِرَتِ السَّمَاءُ بَعْدَهَا كَمَا يُسْتَحْضَرُ الشَّيْءُ بِضِدِّهِ مَعَ قَصْدِ إِيدَاعِ دَلَائِلِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ لِمَنْ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَتَتَبُّعِ أَحْوَالِهَا عَلَى تَفَاوُتِ الْمَدَارِكِ وَتَعَاقُبِ الْأَجْيَالِ وَاتِّسَاعِ الْعُلُومِ.

وَالْقَرَارُ أَصْلُهُ، مَصْدَرُ قَرَّ، إِذَا سَكَنَ. وَهُوَ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَبَرِ عَنِ الْأَرْضِ، فَالْمَعْنَى يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ جَعَلَهَا قَارَّةً غَيْرَ مَائِدَةٍ وَلَا مُضْطَرِبَةٍ فَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ كُرَةِ الْهَوَاءِ مُضْطَرِبَةً مُتَحَرِّكَةً، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَارَّةً لَكَانَ النَّاسُ فِي عَنَاءٍ مِنَ