وَالتَّقْوَى مَصْدَرُ اتَّقَى إِذَا حَذِرَ شَيْئًا، وَأَصلهَا تقيي قَلَبُوا يَاءَهَا وَاوًا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، فَالصِّفَةُ بِالْيَاءِ كامرأة تقيى كخزبى وَصَدْيَى، وَقَدْ أُطْلِقَتْ شَرْعًا عَلَى الْحَذَرِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢] .
[١٩٨]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٩٨]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِمُنَاسَبَةِ النَّهْيِ عَنْ أَعْمَالٍ فِي الْحَجِّ تُنَافِي الْمَقْصِدَ مِنْهُ فَنَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى إِبَاحَةِ مَا كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْهُ فِي الْحَجِّ وَهُوَ التِّجَارَةُ بِبَيَانِ أَنَّهَا لَا تُنَافِي الْمَقْصِدَ الشَّرْعِيَّ إِبْطَالًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَ التِّجَارَةَ لِلْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ حَرَامًا. فَالْفَضْلُ هُنَا هُوَ الْمَالُ، وَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ التِّجَارَةُ لِأَجْلِ الرِّبْحِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠] . وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْ سُوقِ ذِي الْمَجَازِ إِلَى مَكَّةَ حَرُمَ عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ قَالَ النَّابِغَةُ:
كَادَتْ تُسَاقِطُنِي رَحْلِي وَمِيثَرَتِي ... بِذِي الْمَجَازِ وَلَمْ تُحْسِسْ بِهِ نَغَمَا (١)
مِنْ صَوْتِ حِرْمِيَّةٍ قَالَتْ وَقَدْ ظَعَنُوا ... هَلْ فِي مُخِفِّيكُمُ مَنْ يَشْتَرِي أَدَمَا
قُلْتُ لَهَا وَهِيَ تَسْعَى تَحْتَ لَبَّتِهَا ... لَا تَحْطِمَنَّكِ إِنَّ الْبَيْعَ قَدْ زَرِمَا
أَيِ انْقَطَعَ الْبَيْعُ وَحَرُمَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ عُكَاظُ وَمَجَنَّةُ، وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي الْمَوَاسِمِ فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي موسم الْحَج) اهـ. أَيْ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِزِيَادَة فِي مواسم الْحَجِّ.
وَقَدْ كَانَتْ سُوقُ عُكَاظَ تَفْتَحُ مُسْتَهَلَّ ذِي الْقِعْدَةِ وَتَدُومُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَفِيهَا تُبَاعُ نَفَائِسُ السِّلَعِ وَتَتَفَاخَرُ الْقَبَائِلُ وَيَتَبَارَى الشُّعَرَاءُ، فَهِيَ أَعْظَمُ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ وَكَانَ مَوْقِعُهَا بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ عُكَاظَ إِلَى مَجَنَّةَ ثُمَّ إِلَى ذِي الْمَجَازِ، وَالْمَظْنُونُ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ بَيْنَ هَاتَيْنِ السُّوقَيْنِ بَقِيَّةَ شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ لِأَنَّ النَّابِغَةَ ذَكَرَ أَنَّهُ أَقَامَ بِذِي الْمَجَازِ أَرْبَعَ لَيَالٍ وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ذِي الْمَجَازِ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ يَذْكُرُ رَاحِلَتَهُ:
(١) الضمائر الثَّلَاثَة المستترة فِي الْأَفْعَال فِي هَذَا الْبَيْت عَائِدَة إِلَى الرَّاحِلَة الْمَذْكُورَة فِي أَبْيَات قبله.