للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٢٩]

وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)

عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ التَّبْذِيرِ وَالشُّحِّ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الْإِسْرَاء: ٢٦] . وَلَوْلَا تَخَلُّلُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الْإِسْرَاء: ٢٨] الْآيَةَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ شَأْنَ الْبَيَانِ أَنْ لَا يُعْطَفَ عَلَى الْمُبِيَّنِ، وَأَيْضًا عَلَى أَنَّ فِي عَطْفِهَا اهْتِمَامًا بِهَا يَجْعَلُهَا مُسْتَقِلَّةً بِالْقَصْدِ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْبَيَانِ بِمَا فِيهَا مِنَ النَّهْيِ عَنْ الْبُخْلِ الْمُقَابِلِ لِلتَّبْذِيرِ.

وَقَدْ أَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَعْلِيمًا بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةٍ مِنَ الْحَقَائِقِ الدَّقِيقَةِ فَكَانَتْ مِنَ الْحِكْمَةِ.

وَجَاءَ نَظْمُهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ فَصِيغَتِ الْحِكْمَةُ فِي قَالَبِ الْبَلَاغَةِ.

فَأَما الْحِكْمَة فَإذْ بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَحْمُودَ فِي الْعَطَاءِ هُوَ الْوَسَطُ الْوَاقِعُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَهَذِه الأوساط هِيَ حُدُود المحامد بَيْنَ الْمَذَامِّ مِنْ كُلِّ حَقِيقَةٍ لَهَا طَرَفَانِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي حِكْمَةِ الْأَخْلَاقِ أَنَّ لِكُلِّ خُلُقٍ طَرَفَيْنِ وَوَسَطًا، فَالطَّرَفَانِ إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ وَكِلَاهُمَا مُقِرٌّ مَفَاسِدَ لِلْمَصْدَرِ وَلِلْمَوْرِدِ، وَأَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ، فَالْإِنْفَاقُ وَالْبَذْلُ حَقِيقَةٌ أَحَدُ طَرَفَيْهَا الشُّحُّ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ لِلْمَحَاوِيجِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ إِذْ يَجُرُّ إِلَيْهِ كَرَاهِيَةَ النَّاس إِيَّاه وكراهتيه إِيَّاهُمْ. وَالطَّرَفُ الْآخَرُ التَّبْذِيرُ وَالْإِسْرَافُ، وَفِيهِ مَفَاسِدُ لِذِي الْمَالِ وَعَشِيرَتِهِ لِأَنَّهُ يَصْرِفُ مَالَهُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ إِلَى مَصَارِفَ غَيْرِ جَدِيرَةٍ بِالصَّرْفِ، وَالْوَسَطُ هُوَ وَضْعُ الْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ وَهُوَ الْحَدُّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِنَفْيِ حَالَيْنِ بَيْنَ (لَا وَلَا) .

وَأَمَّا الْبَلَاغَةُ فَبِتَمْثِيلِ الشُّحِّ وَالْإِمْسَاكِ بِغَلِّ الْيَدِ إِلَى الْعُنُقِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخَيُّلِ الْيَدِ مَصْدَرًا لِلْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وتخيّل بسطها كَذَلِك وَغَلِّهَا شُحًّا،