شُبِّهَ بِاللِّبَاسِ فِي ذَلِكَ. وَنُسِبَ مُجْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والسّدي وَقَتَادَةَ إِذْ فسروا سُباتاً [النبأ: ٩] سَكَنًا.
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَن وَجه شبه بِاللِّبَاسِ هُوَ الْوِقَايَةُ، فَاللَّيْلُ يَقِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْعَرَبُ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي اللَّيْلِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْغَارَةُ صَبَاحًا وَلِذَلِكَ إِذَا غِيرَ عَلَيْهِمْ يَصْرُخُ الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: يَا صَبَاحَاهُ. وَيُقَالُ: صَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ.
وَكَانُوا إِذَا أَقَامُوا حَرَسًا عَلَى الرُّبَى نَاظُورَةَ عَلَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرُقَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يُقِيمُونَهُ نَهَارًا فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ نَزَلَ الْحَرَسُ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ فَرَسَهُ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعٍ مُنِيفَةٍ ... جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دونهَا جرّامها
[١١]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١١]
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١)
لَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ نِظَامِ اللَّيْل قوبل بِذكر خلق نِظَامِ النَّهَارِ، فَالنَّهَارُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَفِيهِ عِبْرَةٌ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَإِحْكَامِهِ إِذْ جُعِلَ نِظَامَانِ مُخْتَلِفَانِ مَنْشَؤُهُمَا سُطُوعُ نُورِ الشَّمْسِ وَاحْتِجَابُهُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَهُمَا نعمتان للبشر مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْآثَارِ فَنِعْمَةُ اللَّيْلِ رَاجِعَةٌ إِلَى الرَّاحَةِ وَالْهُدُوءِ، وَنِعْمَةُ النَّهَارِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُ اللَّيْلَ فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ قَدِ اسْتَجَدَّ رَاحَتَهُ وَاسْتَعَادَ نَشَاطَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْمَالِ بِسَبَبِ إِبْصَارِ الشُّخُوصِ وَالطُّرُقِ.
وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ لِأَجْلِ الْمَعَاشِ أُخْبِرَ عَنِ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مَعَاشٌ وَقَدْ أَشْعَرَ ذِكْرُ النَّهَارِ بَعْدَ ذِكْرِ كُلٍّ مِنَ النَّوْمِ وَاللَّيْلِ بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ النَّهَارَ ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ النَّوْمِ فَصَارَتْ مُقَابَلَتُهُمَا بِالنَّهَارِ فِي تَقْدِيرِ: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ وَالْيَقَظَةَ فِيهِ مَعَاشًا، فَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ، وَبِذَلِكَ حَصَلَ بَيْنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُطَابَقَتَانِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ لَفْظًا وَضِمْنًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute