فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» قِيلَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ»
. فَهُمْ أَفَّاكُونَ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْكَذِبِ فَمِنْهُمْ أَفَّاكُونَ فِيمَا يَزِيدُونَهُ عَلَى خَبَرِ الْجِنِّ، وَمِنْهُمْ أَفَّاكُونَ فِي أَصْلِ تَلَقِّي شَيْءٍ مِنَ الْجِنِّ، وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْكُهَّانِ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ بِبَعْضِ أَحْوَالِ النُّبُوءَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ غَيْبٍ، وَأَسْجَاعُهُمْ قَدْ تَلْتَبِسُ بِآيَاتِ الْقُرْآن فِي بادىء النَّظَرِ.
أَطْنَبَتِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْكَهَانَةِ وَبَيَّنَتْ أَنَّ قُصَارَاهَا الْإِخْبَارُ عَنْ أَشْيَاءَ قَلِيلَةٍ قَدْ تَصْدُقُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَدْيِ النَّبِيءِ وَالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآدَابِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالصَّرَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ وَلَا تَصَدِّي مِنْهُ لِلْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ. كَمَا قَالَ: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الْأَنْعَام: ٥٠] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنى.
[٢٢٤- ٢٢٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢٢٤ إِلَى ٢٢٧]
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
كَانَ مِمَّا حَوَتْهُ كِنَانَةُ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ قَالُوا فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ شَاعِرٌ، فَلَمَّا نَثَلَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ سِهَامَ كِنَانَتِهِمْ وَكَسَرَتْهَا وَكَانَ مِنْهَا قَوْلُهُمْ: هُوَ كَاهِنٌ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ، وَكَانَ بَيْنَ الْكَهَانَةِ وَالشِّعْرِ جَامِعٌ فِي خَيَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلشَّاعِرِ شَيْطَانًا يُمْلِي عَلَيْهِ الشِّعْرَ وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الرَّئِيَّ، فَنَاسَبَ أَنْ يُقَارَنَ بَيْنَ تَزْيِيفِ قَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ شِعْرٌ، وَقَوْلِهِمْ فِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ شَاعِرٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ: هُوَ قَوْلُ كَاهِنٍ، كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١، ٤٢] فَعَطَفَ هُنَا قَوْلَهُ: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ عَلَى جُمْلَةِ: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٢٢٢] .
وَلَمَّا كَانَ حَالُ الشُّعَرَاءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخَالِفًا لِحَالِ الْكُهَّانِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِمَلَكَةِ الشِّعْرِ اتِّصَالٌ مَا بِالنُّفُوسِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ ادِّعَاءُ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ أَشَاعُوهُ بَيْنَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، اقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute