الْفَاءِ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ بِهِ إِلَى كَوْنِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ اسْمِيَّةً تَقْدِيرًا فَيَرْمِزُونَ بِالْفَاءِ إِلَى مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جُعِلَ الْفِعْلُ خَبَرًا عَنْهُ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ التَّقَوِّي، فَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ مَا يَنَالُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يَنَالُ غَيْرَهُ، أَوْ لِقَصْدِ التَّقَوِّي، أَيْ تَأْكِيدِ حُصُولِ هَذَا الِانْتِقَامِ. وَنَظِيرُهُ
فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً [الْجِنّ: ١٣] فَقَدْ أَغْنَتِ الْفَاءُ عَنِ إِظْهَارِ الْمُبْتَدَأِ فَحَصَلَ التَّقَوِّي مَعَ إِيجَازٍ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مَعَ تَوْجِيهِهِ، وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْفَاءِ وَعَدَمَهُ فِي مِثْلِ هَذَا سَوَاءٌ، وَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ تَذْيِيلٌ. وَالْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَاصِرٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ ذُو انْتِقَامٍ، أَيْ لِأَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ تَقْتَضِي الِانْتِقَامَ مِنَ الْمُفْسِدِ لِتَكُونَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ على وفقها.
[٩٦]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة:
٩٥] فَإِنَّهُ اقْتَضَى تَحْرِيمَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَجَعْلَ جَزَاءِ فِعْلِهِ هَدْيَ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ قَتْلًا، وَلَيْسَ لِمَا يُصَادُ مِنْهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُشَكُّ لَعَلَّ اللَّهَ أَرَادَ الْقَتْلَ بِمَعْنَى التَّسَبُّبِ فِي الْمَوْتِ، وَأَرَادَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ الْمُقَارِبَ فِي الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلنَّاسِ حُكْمَ صَيْدِ الْبَحْرِ وَأَبْقَاهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَيْسَ مِنْ حَيَوَانِ الْحَرَمِ، إِذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ بَحْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: ٩٥] أَنَّ أَصْلَ الْحِكْمَةِ فِي حُرْمَةِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ هِيَ حِفْظُ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ وَحَرَمِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute