للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أَيْ مِنَ الْمُعْتَدِينَ وَأَشْهَرُ مَعَانِي الظُّلْمِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ هُوَ الِاعْتِدَاءُ، وَالِاعْتِدَاءُ إِمَّا اعْتِدَاءٌ عَلَى نَهْيِ النَّاهِي إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ الْجَزْمَ بِالتَّرْكِ وَإِمَّا اعْتِدَاءٌ عَلَى النَّفْسِ وَالْفَضِيلَةِ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَقَاءَ فَضِيلَةِ التَّنَعُّمِ لِآدَمَ فِي الْجَنَّةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ الظُّلْمُ لِأَنْفُسِهِمَا بِارْتِكَابِ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ وَعَلَى الثَّانِي الظُّلْمُ لِأَنْفُسِهِمَا بِحِرْمَانِهَا مِنْ دوَام الْكَرَامَة.

[٣٦]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٣٦]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)

الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا [الْبَقَرَة: ٣٥] وَحَقُّهَا إِفَادَةُ التَّعْقِيبِ فَيَكُونُ التَّعْقِيبُ عُرْفِيًّا لِأَنَّ وُقُوعَ الْإِزْلَالِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَّةِ الْمُرَادَةِ مِنْ سُكْنَى الْجَنَّةِ كَالْأَمَدِ الْقَلِيلِ. وَالْأَحْسَنُ جَعْلُ الْفَاءِ لِلتَّفْرِيعِ مُجَرَّدَةً عَنِ التَّعْقِيبِ.

وَالْإِزْلَالُ جَعْلُ الْغَيْرِ زَالًّا أَيْ قَائِمًا بِهِ الزَّلَلُ وَهُوَ كَالزَّلَقِ أَنْ تَسِيرَ الرِّجْلَانِ عَلَى الْأَرْضِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ لِارْتِخَاءِ الْأَرْضِ بِطِينٍ وَنَحْوِهِ، أَيْ ذَاهِبَةً رِجْلَاهُ بِدُونِ إِرَادَةٍ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي صُدُورِ الْخَطِيئَةِ وَالْغَلَطِ الْمُضِرِّ وَمِنْهُ سُمِّي الْعِصْيَانُ وَنَحْوُهُ الزَّلَلَ.

وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْها يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الشَّجَرَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ وَلِيَتَبَيَّنَ سَبَبُ

الزَّلَّةِ وَسَبَبُ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ إِذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلِ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الشَّجَرَةِ لَخَلَتِ الْقِصَّةُ عَنْ ذِكْرِ سَبَبِ الْخُرُوجِ. وَ (عَنْ) فِي أَصْلِ مَعْنَاهَا أَيْ أَزَلَّهُمَا إِزْلَالًا نَاشِئًا عَنِ الشَّجَرَةِ أَيْ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، وَلَيْسَتْ (عَنْ) لِلسَّبَبِيَّةِ وَمَنْ ذَكَرَ السَّبَبِيَّةَ أَرَادَ حَاصِلَ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: ٣] أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا يَنْطِقُ بِالْهَوَى فَقَالَ الرَّضِيُّ: الْأَوْلَى أَنَّ (عَنْ) بِمَعْنَاهَا وَأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ نُطْقًا صَادِرًا عَنِ الْهَوَى. وَيَجُوزُ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلْجَنَّةِ وَتَكُونُ (عَنْ) عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْإِزْلَالُ مَجَازًا فِي الْإِخْرَاجِ بِكُرْهٍ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ مُكْرَهَيْنِ كَمَنْ يُزَلُّ عَنْ مَوْقِفِهِ فَيَسْقُطُ كَقَوْلِهِ: «وَكَمْ مَنْزِلٍ لَوْلَايَ طِحْتَ» .

وَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ تَفْرِيعٌ عَنِ الْإِزْلَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّجَرَةِ،