[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٤١]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا صَالِحٌ لِعِدَّةِ وُجُوهٍ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِالْحَوَادِثِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَعَنْ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَوْقِعُهَا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَات [الرّوم: ٩] ، فَلَمَّا طُولِبُوا بِالْإِقْرَارِ عَلَى مَا رَأَوْهُ مِنْ آثَارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ طَرِيقُ الْمَوْعِظَةِ من قَوْله هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرّوم: ٢٧] ، وَمِنْ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْرِيعِ اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الشُّكْرَ لِذَاتِهِ وَلِأَجْلِ إِنْعَامِهِ اسْتِحْقَاقًا مُسْتَقِرًّا إِدْرَاكُهُ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ مَا كَانَ إِلَّا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ بِالْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ كَسَبَتْ أَيْدِيهُمْ مِثْلَ مَا كَسَبَتْ أَيْدِي أُولَئِكَ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنْ مَجْمُوعِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ عَنْ سَبَبِ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْقِعَ التَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرّوم: ٣٣] الْآيَةَ، فَهِيَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ
فِي التَّنْدِيمِ عَلَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ضُرٍّ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقْلِعُوا عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِيضَاحِ الْمَقْصُودِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ «بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ» . فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَصَائِبَ نَزَلَتْ بِبِلَادِ الْمُشْرِكِينَ وَعَطَّلَتْ مَنَافِعَهَا، وَلَعَلَّهَا مِمَّا نَشَأَ عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَ الرُّومِ وَفَارِسَ، وَكَانَ الْعَرَبُ مُنْقَسِمِينَ بَيْنَ أَنْصَارِ هَؤُلَاءِ وَأَنْصَارِ أُولَئِكَ، فَكَانَ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ أَنِ انْقَطَعَتْ سُبُلَ الْأَسْفَارِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَعَطَّلَتِ التِّجَارَةُ وَقَلَّتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute