وَالْمُنِيبُ: الرَّاجِعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرَّاجِعُ إِلَى الْحَقِّ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِذَا انْحَرَفَ أَوْ شَغَلَهُ
شَاغِلٌ ابْتَدَرَ الرُّجُوعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالِامْتِثَالِ فَلَا يُفَارِقُهُ حَالُ الطَّاعَةِ وَإِذَا فَارَقَهُ قَلِيلًا آبَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ. وَإِطْلَاقُ الْمُنِيبِ عَلَى التَّائِبِ وَالْإِنَابَةِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ تَفَارِيعِ هَذَا الْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فِي سُورَةِ ص [٢٤] .
وَخُصَّ الْعَبْدُ الْمُنِيبُ بِالتَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَرْضِ إِفَادَةُ التَّبْصِرَةِ وَالذِّكْرَى لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُنِيبَ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ حِكْمَةِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ. وَهَذَا تَشْرِيفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيضٌ بِإِهْمَالِ الْكَافِرِينَ التَّبَصُّرَ وَالتَّذَكُّرَ.
وَيُحْمَلُ (كُلِّ) عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ مِنَ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ قُصِدَ مِنْهَا التَّبْصِرَةُ وَالذِّكْرَى لِجَمِيعِ الْعِبَادِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْحَقِّ إِذْ لَا يَخْلُونَ مِنْ تَبَصُّرٍ وَتَذَكُّرٍ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهِمْ فِي ذَلِك.
[٩، ١٠]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠)
بَعْدَ التَّنَظُّرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّبْصِيرِ فِي صُنْعِ السَّمَاوَاتِ وَصُنْعِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ وَقْتِ نَشْأَتِهِمَا نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِإِيجَادِ آثَارٍ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْمَصْنُوعَاتِ تَتَجَدَّدُ عَلَى مُرُورِ الدَّهْرِ حَيَّةً ثُمَّ تَمُوتُ ثُمَّ تَحْيَا دَأْبًا، وَقَدْ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ لِهَذَا الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ [ق: ٦] إِلَى أُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ بِقَوْلِهِ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً إِيذَانًا بِتَبْدِيلِ الْمُرَادِ لِيَكُونَ مِنْهُ تَخْلُصٌ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: ١١] . فَجُمْلَةُ وَنَزَّلْنا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [الْحجر: ١٩] .
وَقَدْ ذُكِرَتْ آثَارٌ مِنْ آثَارِ السَّمَاءِ وَآثَارِ الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّشْرِ الْمُرَتَّبِ عَلَى وَفْقِ اللَّفِّ.
وَالْمُبَارَكُ: اسْمُ مَفْعُولٍ لِلَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ الْبَرَكَةُ، أَيْ جُعِلَ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute