للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ.

تَفْرِيعٌ عَنْ حُكْمِ الْعَفْوِ لِأَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي شُكْرَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أَنْجَاهُ بِشَرْعِ جَوَازِ الْعَفْوِ وَبِأَنْ سَخَّرَ الْوَلِيَّ لِلْعَفْوِ، وَمِنَ الشُّكْرِ أَلَّا يَعُودَ إِلَى الْجِنَايَةِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ عَادَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْمُرَادُ تَشْدِيدُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [الْمَائِدَة: ٩٥] ، ثُمَّ لَهُ مِنْ حُكْمِ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ مَا لِلْقَاتِلِ ابْتِدَاءً عِنْدَهِمْ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا أَعْنِي الْقَتْلَ فَقَالُوا: إِنْ عَادَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ إِلَى

الْقَتْلِ مَرَّةً أُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ وَلَا يُمَكِّنُ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ هُنَا سَوَاءٌ كَانَ الْعَذَابُ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَوْ عَذَابَ الدُّنْيَا أَنَّ تَكَرُّرَ الْجِنَايَةِ يُوجِبُ التَّغْلِيظَ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَصِيرُ لَهُ دُرْبَةً فَعَوْدُهُ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ يُؤْذِنُ بِاسْتِخْفَافِهِ بِالْأَنْفُسِ فَيَجِبُ أَنْ يُرَاحَ مِنْهُ النَّاسُ، وَإِلَى هَذَا نَظَرَ قَتَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ حُكْمَ الْعَفْوِ إِنْ رَضِيَ بِهِ الْوَلِيُّ لِأَنَّ الْحَقَّ حَقُّهُ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِتَفْوِيضِهِ إِلَى الْإِمَامِ لِيَنْظُرَ هَلْ صَارَ هَذَا الْقَاتِلُ مُزْهِقَ أَنْفُسٍ، وَيَنْبَغِيَ إِنْ عُفِيَ عَنْهُ أَنْ تُشَدَّدَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ أَكْثَرَ مِنْ ضَرْبِ مِائَةٍ وَحَبْسِ عَامٍ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوهُ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هَذَا الْحُكْمَ بَعْدَ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَانِيَ غَيْرُ جَدِيرٍ فِي هَاتِهِ الْمَرَّةِ بِمَزِيدِ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ مِنَ الْفِقْهِ دَقِيقٌ، قَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ ثُمَّ يَدْفَعُ الدِّيَةَ ثُمَّ يَغْدُرُهُ وَلِيُّ الدَّمِ فَيَقْتُلُهُ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قِصَّةُ حُصَيْنِ بْنِ ضَمْضَمٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا زُهَيْرٌ بِقَوْلِهِ:

لَعَمْرِي لِنِعْمَ الْحَيُّ جَرَّ عَلَيْهُمُ ... بِمَا لَا يُوَاتِيهِمْ حُصَيْنُ بن ضَمْضَم

[١٧٩]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧٩]

وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)

تَذْيِيلٌ لَهَاتِهِ الْأَحْكَامِ الْكُبْرَى طَمْأَنَ بِهِ نُفُوسَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلِيَاءَ الدَّمِ وَالْقَاتِلِينَ فِي قَبُولِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فَبَيَّنَ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً، وَالتَّنْكِيرُ فِي حَياةٌ لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، أَيْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ لَكُمْ أَيْ لِنُفُوسِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ ارْتِدَاعَ النَّاسِ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، فَلَوْ أُهْمِلَ